أولا : القصيدة
قولوا لأمي
عائدةٌ أنا هذا المساءْ ،
أسري في النسيمِ
شرياناً للذهولْ ،
مسرّةً للماءِ ... مطراً..
نبيةً ..
في غسق الينابيعِ الغائرةِ ،
- سرِّي ؟!
-أنثىً كنتُها
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ
*****
قولوا لأمي
القبرُ لم يعدْ يليقُ بها
المخاضُ على أعتابهِ
يناديكِ تعالي...
وتجيءْ ...
كالمعجزةِ تجيءُ
كأولِ البشرِ ...
أسطورةً وحدهَا... تجيء
تعمِّدُ راحتيَّ بحنائِكَ الكونيْ
أصرخُ
من ارتكب الخطيئةَ ...
أنا أم هوْ ؟؟
*****
قولوا لأمي
أطرافي غيمٌ
لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟
كيفَ سرقَتني منها
الأمهاتُ...؟؟
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
*****
قولوا لأمي
ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى
في فضاءِ الجنونْ
ما نَسيتُ كفّيها في السماء
....تلك الطفلةُ
منذورةٌ للذبولِ ...
فامتحِنيْها حبراً من نُسغِ الروحِ
كلّما أنَّ الصمتُ
فاضَ نحوَ الغيومِ ...
والصرخةُ تهوي بهِ
صخرةً سرمدية الحنينْ
*****
قولوا لأمي
سبّابةُ المواجعِ القديمةِ
تشيرُ إلىّ كلّما أخذتُ رأسهُ
بين جنونينا
وانبريتُ كالريحِ ...
كلّما غنيتُ
تعرَّشَ الشيطانُ
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة...
منذ حينٍ ماتَ !
وحين أسمع الصدى... أحبكِ...
أكون قد متُ
في صيفٍ بعيدْ ...
*****
قولوا لأمي
تلك هي الخاتمةْ
وذاك ما فعلته الريحُ بقبري .
حروفٌ مبعثرةٌ تدورُ
تدورُ ...
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظرْ
*****
في موتي القادم..
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي
وأدمعي السريةُ تصرخُ :
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ .
******
مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
*****
قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
ثانيا : التحليل الأدبي للنص
العرض :
تعبر لنا الشاعرة في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي تعيشها بسبب فقدها للوطن والغربة والاغتراب، وتقتنص من مظاهر الطبيعة صوراً رمزية توحي لنا بحالته النفسية. والشعر فيه شيء من غموض، ولكنه غموض يوحي لقارئه بإدراك المعنى والجو النفسي الذي تعيشه الشاعر،
وأول ما يطالعنا مطلع القصيدة ( قولوا لأمي ) ، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين ‘ فالعلاقة بين الأم والأرض أو الوطن علاقة تلازمية , وفيها من التلاحم ما لا يمكن فصله أو انعتاقه. فثنائية الأرض والمرأة ( الأم ) ثنائية المتحققة في النص شاهدا على أن الشاعرة عائدة قد تعاملت مع أرضها الضائعة ليس من منظور المكان الذي يحتوي الإنسان ، بل من منظور أن وطنها المفقود هو لب تفكيرها وكينونتها وشعورها وهذا لا يتحقق إلا به، وهذه الأفكار منقوشة في اللاوعي الفردي للشاعرة كما هي راسخة في اللاوعي الجمعي.
ولنتأمل العنوان مرة أخرى " قولوا لأمي ) فسوف نرى أنفسنا أننا نقف أمام إصرار الشاعرة على المقاومة والتحدي ، فلقد اختارت الشاعرة فعل الأمر" قولوا "وهي صيغة تدل على فداحة الخطر وعظيم المأساة ، فالشاعرة أجبرها الاحتلال على الهجرة بعيدا عن الوطن في منافي الأرض البعيدة ، ورغم البعد إلا أن الشاعرة تصر على العودة إلى جذورها ، إلى أمها ، إلى أرضها .
فالوطن عند الشاعرة الأم يتجلى عطاؤها من خلال المطر والماء والينبوع ، والإنسان الفلسطيني يتجلى إبداعه ويظهر خصوبته من خلال الأم ( الوطن )
وإذا قرأنا النص قراءة متأنية ، فإننا سنجد الخطاب الشعري فيه يتمركز حول شخصية الشاعرة ، ولكن تلك الشخصية لا تبدو نفسا أو ذاتا أو فردا منغلق على نفسه ، فالشاعرة تعتبر نفسها امتدادا متواصلا في التاريخ الجماعي لشعب عريق متجذر منتم إلى الأمة العربية ألا وهو الشعب الفلسطيني ، فالخطاب بصيغة المتكلم في النص يصبح دالا على الأمة ، فتتحد ذات الشاعر مع روح الجماعة ، فالأنا لم تعد تعني في النص أنا الشاعر بل أصبحت أنا الشعب والأمة.
ونلاحظ أن القصيدة قد تشكلت في تسعة مقاطع ، وكل مقطع يبدأ بعبارة ( قولوا لأمي ) وهي متآلفة مع بعضها في انسجام واتحاد تام ؛ لتعبر عن رؤية الشاعرة وحتمية عودتها لوطنها ولتاريخها وأمها مكللة بالعزة والنصر .
ويأتي المقطع الأول في النص ؛ ليصور لنا عزم الشاعرة على عودتها بالنضال والكفاح ، فهي عائدة هذا المساء ، والمساء تعبير عن الحزن والشقاء والتعاسة ، فالفلسطيني يحمل همه وهموم الأمة ، وتنسى الشاعرة أحزانها ، وتعود لوطنها مع النسيم ، تذهل العالم بأصالة هذا الشعب وإصراره على عودته لجذوره ، وتعود بالخصب ( المطر ) لوطن الخصب والخير ( الينابيع )، ليتجدد العطاء كما يتجدد الميلاد من رحم الأنثى :
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ
وتبدأ الحياة ودورة الميلاد من جديد في فلسطين ، ويبدأ التلألؤ كلمعان النجوم والسمو كسموها ، فدورة الحياة : ميلاد وموت وانبعاث ،وتقول في المقطع الثاني إن الغربة قبر وموت ، ولم يعد القبر ملائما كما لم تعد الغربة مناسبة ولا البعد بلائق، فالغربة قبر وموت ، وقبر غير مناسب للشاعرة فهي ترفض البعد القسري عن أمها ، فساعة العودة قد أزفت (المخاضُ على أعتابه) والعودة تحمل في طياتها البشر والعطاء ، وتسمع الشاعرة صوت أمها تدعوها للمجيء والعودة إليها ، وتلبي الشاعرة دعوة أمها وتعود لفلسطين ، وتكرر الشاعرة الفعل ( تجيء ) في هذا المقطع ثلاث مرات تأكيدا على إصرارها بالعودة وحق العودة .
وفي المقطع الثالث تؤكد الشاعرة أن عودتها لأمها خير وبركة ( لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها ) ، فالعلاقة بين الشاعرة وأمها علاقة حب وحنين وتلازم وتبادل ، وتتحدان في ذات واحدة:
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
ولقد بدأت الشاعرة في هذا المقطع – وفي بداية – كل مقطع عبارة ( قولوا لأمي) ، وهذا التكرار لم يأت عبثا بل يدل على إصرار الشاعرة على عودتها لأمها ، فالشاعرة لم تعد تطيق الانتظار والبعد عن فلسطين ، ولن تقبل وطنا بديلا ، وفي المقطع الرابع ترى الشاعرة أن حنينها لأمها ، أبديا ، وأنها لم تنساها في غربتها يوما ، وفي المقطع الخامس تؤكد الشاعرة حبها الحقيقي لمحبوبتها وحبيبها ، وكلما تذكرت النكبة تصرخ بحبها لأمها فلسطين ، فالشعب الفلسطيني لم ولن يقبل بأم بديلا عن وطنه ، وتْؤكد الشاعرة حبها لفلسطين عن طريق تكرار كلمة " أحبك "مرتين في هذا المقطع
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة
وفي المقطع السادس تشكو الشاعرة لأمها ما حصل لها من ذل وتشريد ومهانة وتشريد في منافي الأرض ، وهي تنتظر العودة الميمونة بفارغ الصبر ونلحظ ذهول الشاعرة في غربتها بتكرارها لكلمة " تدور" مرتين في هذا المقطع، لقد أنهكتها الغربة ، لم تعد تقوى على أن تكون قضيتها معلقة
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظر
وفي المقطع السابع تعلن الشاعرة ضيقها ورفضها العيش بعيدا عن أمها الوطن ، تريد الخلاص من سجنها الذي أدماها وأدمى مقلتيها ، تريد الانعتاق ـ تريد التحرر من غربتها وقيدها :
وأدمعي السريةُ تصرخُ
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ
وفي المقطع الثامن تصف الشاعرة أحزانها وتشاؤمها في غربتها وهي بعيدة عن أمها ، فالاحتلال الإسرائيلي ليس كأي احتلال بل هو غزو استيطاني ، العالم الغربي يؤيده ويؤازره ، فمساء الشاعرة غامض ، ينتابها الحزن والأسى كما ينتاب الحزن الإنسان البريء ، وتتساءل الشاعرة هل مرد هذا الحزن هو الشعور بالخزي لأن لكل إنسان وطنا ما عدا الفلسطيني أم مرده الملل والضجر من حياة الغربة والمنافي بعيدا عن الوطن والأم ؟
مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
وفي المقطع التاسع والأخير تجسد الشاعرة مأساتها في غربتها وابتعادها عن الوطن ، فصحراؤها ذابلة ، حيث تتعمق القوة التعبيرية للصحراء ، فهي الوجه المناقض للوطن ، إنها التيه والعذاب والضياع والموت ، فالعرب وصفوا الصحراء بالمهلكة ، فهي رمز لها كما تقول الشاعرة الخنساء :
ليَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ ***** دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتار
و رِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ ***** كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القار
وعينا الشاعرة زائغتان في الطرقات كالإنسان المغشى عليه من هول فقدها لأمها ، لكن بالرغم من ذلك فإنها صنعت من أصابعها ومن جسدها شراعا للعودة إلى فلسطين ، فاسم الشاعرة عائدة ، تريد أن تخفف من شدة حنينها لوطنها ، وتريد أن تتخلص من رتابة الملل والضجر في غربتها ، وليس لها من حل إلا بالعودة والرجوع ، فالشاعرة مصرة ومصمة على العودة إلى الجذور.
قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
ولقد صورت لنا الشاعرة عائدة النوباني بعدستها الشعرية وذائقتها الفنية واقع الإنسان الفلسطيني ومشاعره في المنافي بعيدا عن أرضه ، فابتعدت عن المباشرة ، فلجأت إلى الرمز ، واتسمت القصيدة بمجموعة من الخصائص الفنية التي امتاز بها الشعر الرمزي والشعر الحر، أهمها :
التداخل بين الأبعاد الزمانية والمكانية : 1.
تنقلت شخصية الشاعرة في القصيدة على مستوى البناء بين الحاضر والماضي والمستقبل ، فتنقلت بين حاضرها في غربتها وبين عودتها لوطنها ، ولقد جعلت الفعل المضارع هو المهيمن في النص ؛ ليفيد الاستمرارية والحيوية ، كقولها: أسري ، أكون ، لم يعد ، يناديك ، تجيء ( ثلاث مرات ) تعمد ، أصرخ ، تجف ، تتثاءب ، تهوي ، ينتظر ، أحبك ( مرتين ) أوجعتني ،تدور ( مرتين )سترقص ، أسمع. أكون( مكررة ) ، تشير ، تتحرش ، أسأل ، يسأل ، أمضي .
واتكأت الشاعرة على الفعل الماضي ليفيد السرد القصصي ، كما في مثل :
قولوا ( تكررت عشر مرات ) كنت ، نبت ، سرق ، ارتكب ، قامت ، كنت ، أخذت ، تعرّش ،قلت ، فعل ، نأيت.
وتنقلت الشاعرة بين أماكن غربتها وفي وطنها.
2. لجأت الشاعرة إلى تقنيات فنية مستمدة من الفنون النثرية السردية :
فاستخدمت الحوار : ( قولوا لأمي ) ، ولجأت إلى التداعي الحر من خلال اعتماده في نسج القصيدة على الذاكرة والحواس والخيال ، ومكّنت هذه التقنيات بأن جعلت بناء القصيدة يقترب من البناء الدرامي.
3. الاهتمام بالصورة الشعرية :
، وتدعو الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر، فلابد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة، حتى تستطيع أن نستشف منها معاني الجمال
واللغة الشعرية ـ نفسها ـ ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذ اللغة ـ في نظر الرمزيين ـ قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء، وبالتالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولابد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة ليستوحى ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة ، وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزاً لا تعبيراً ، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة.
فلقد نقلت الشاعرة أحاسيسها ومشاعرها وأفكارها بلغة شعرية فيها التشخيص والتجسيد والرمز ؛ فاهتمت بالمجاز وما فيه من صور شعرية ، كما في مثل :
قبلَ ذهولِ الأرضِ : فقد صورت الشاعرة الأرض بإنسان مذهول.
وانبعاثِ رحمِها : شبهت الشاعرة الأرض بأنثى لها رحم
أنَّ الصمت فاضَ نحوَ الغيوم : شبهت الصمت بالماء
ُوالصرخةُ تهوي به : شبهت الصرخة بشيء يهوي ويسقطِ
أوجعتني الذاكرة : شبهت الذاكرة بالمرض الموجع
حين تنامُ ضفائرُ وجدي ـ شبهت الضفائر بإنسان ينام ، وشبهت الوجد بامرأة لها ضفائر.
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ـ شبهت الجدران بإنسان يتحرش.
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي : شبهت الشاعرة الغرفة براقصة تارة ، وتارة أخرى بامرأة تتوجّع .
وأدمعي السريةُ تصرخُ : شبهت الدموع بكائن حي يصرخ.
ومثلها كثير ، وهي في مجملها استعارات مكنية .
4. استخدمت الشاعرة الرمز ،والرمزيون يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ ليستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة، إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويزيل ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها، على أنه لابد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء فيبتعدون عن المباشرة في الخطاب .
ومن الرموز في النص :
"أمي" ، ورمزت إليها عن فلسطين ، والصحراء الذابلة : رمز الضياع والموت والفناء ، والمساء رمز الشؤم ، والينابيع الغائرة رمز الجدب ، والماء والغيم والمطر رمز الخصب والخير في كل ، والقبر رمز موت الأمل ، حتى مداك َ الأخيرِ أكون : رمز للتضحية اللامتناهية ْ، لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟ : رمز للخير والعطاء ، كيفَ سرقَتني منها الأمهاتُ؟ ؟ رمز عن رفض الشاعرة للوطن البديل ، ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى رمز على أن الشاعرة لم تتوانى في البحث عن طريق تسلكها للعودة لفلسطين ، كوني أمي... فكنتُ، رمز لاتحد وانصهار الشاعرة مع وطنها ،..
أوجعتني الذاكرة : رمز لتألم الشاعرة على فلسطين المزروعة في ذاكرتها ، أطلقوني من صليب النوافذ : رمز لرفض الشاعرة الحياة في المنافي...ومثل هذا كثير في النص .
5. استخدمت الشاعرة الأسطورة أو الحكاية المورثية في التراث :
يلجأ شعراء التفعيلة في كثير من الأحيان إلى الأساطير الشعبية ، أو الأساطير المعروفة عند الأمم الأخرى ، أو إلى القصص والحكايات المعروفة في الكتب المقدسة ، وفي كتب التراث للتعبير عن معان يريدونها ، وقد لجأت الشاعرة عائدة لاستخدام أسطورة الأم أو المرأة عند الكنعانيين التي ترمز للوطن لقد مجدت الحضارة الكنعانية في فلسطين المرأة، حتى أن عشتار وعناة كانتا نائبتين للإله إيل والإله بعل، وبقيت طقوس الحضارة الكنعانية قائمة في الحياة اليومية للناس ،، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين .
6. الوحدة العضوية والموضوعية والصدق الفني.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قولوا لأمي
عائدةٌ أنا هذا المساءْ ،
أسري في النسيمِ
شرياناً للذهولْ ،
مسرّةً للماءِ ... مطراً..
نبيةً ..
في غسق الينابيعِ الغائرةِ ،
- سرِّي ؟!
-أنثىً كنتُها
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ
*****
قولوا لأمي
القبرُ لم يعدْ يليقُ بها
المخاضُ على أعتابهِ
يناديكِ تعالي...
وتجيءْ ...
كالمعجزةِ تجيءُ
كأولِ البشرِ ...
أسطورةً وحدهَا... تجيء
تعمِّدُ راحتيَّ بحنائِكَ الكونيْ
أصرخُ
من ارتكب الخطيئةَ ...
أنا أم هوْ ؟؟
*****
قولوا لأمي
أطرافي غيمٌ
لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟
كيفَ سرقَتني منها
الأمهاتُ...؟؟
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
*****
قولوا لأمي
ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى
في فضاءِ الجنونْ
ما نَسيتُ كفّيها في السماء
....تلك الطفلةُ
منذورةٌ للذبولِ ...
فامتحِنيْها حبراً من نُسغِ الروحِ
كلّما أنَّ الصمتُ
فاضَ نحوَ الغيومِ ...
والصرخةُ تهوي بهِ
صخرةً سرمدية الحنينْ
*****
قولوا لأمي
سبّابةُ المواجعِ القديمةِ
تشيرُ إلىّ كلّما أخذتُ رأسهُ
بين جنونينا
وانبريتُ كالريحِ ...
كلّما غنيتُ
تعرَّشَ الشيطانُ
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة...
منذ حينٍ ماتَ !
وحين أسمع الصدى... أحبكِ...
أكون قد متُ
في صيفٍ بعيدْ ...
*****
قولوا لأمي
تلك هي الخاتمةْ
وذاك ما فعلته الريحُ بقبري .
حروفٌ مبعثرةٌ تدورُ
تدورُ ...
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظرْ
*****
في موتي القادم..
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي
وأدمعي السريةُ تصرخُ :
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ .
******
مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
*****
قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
ثانيا : التحليل الأدبي للنص
العرض :
تعبر لنا الشاعرة في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي تعيشها بسبب فقدها للوطن والغربة والاغتراب، وتقتنص من مظاهر الطبيعة صوراً رمزية توحي لنا بحالته النفسية. والشعر فيه شيء من غموض، ولكنه غموض يوحي لقارئه بإدراك المعنى والجو النفسي الذي تعيشه الشاعر،
وأول ما يطالعنا مطلع القصيدة ( قولوا لأمي ) ، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين ‘ فالعلاقة بين الأم والأرض أو الوطن علاقة تلازمية , وفيها من التلاحم ما لا يمكن فصله أو انعتاقه. فثنائية الأرض والمرأة ( الأم ) ثنائية المتحققة في النص شاهدا على أن الشاعرة عائدة قد تعاملت مع أرضها الضائعة ليس من منظور المكان الذي يحتوي الإنسان ، بل من منظور أن وطنها المفقود هو لب تفكيرها وكينونتها وشعورها وهذا لا يتحقق إلا به، وهذه الأفكار منقوشة في اللاوعي الفردي للشاعرة كما هي راسخة في اللاوعي الجمعي.
ولنتأمل العنوان مرة أخرى " قولوا لأمي ) فسوف نرى أنفسنا أننا نقف أمام إصرار الشاعرة على المقاومة والتحدي ، فلقد اختارت الشاعرة فعل الأمر" قولوا "وهي صيغة تدل على فداحة الخطر وعظيم المأساة ، فالشاعرة أجبرها الاحتلال على الهجرة بعيدا عن الوطن في منافي الأرض البعيدة ، ورغم البعد إلا أن الشاعرة تصر على العودة إلى جذورها ، إلى أمها ، إلى أرضها .
فالوطن عند الشاعرة الأم يتجلى عطاؤها من خلال المطر والماء والينبوع ، والإنسان الفلسطيني يتجلى إبداعه ويظهر خصوبته من خلال الأم ( الوطن )
وإذا قرأنا النص قراءة متأنية ، فإننا سنجد الخطاب الشعري فيه يتمركز حول شخصية الشاعرة ، ولكن تلك الشخصية لا تبدو نفسا أو ذاتا أو فردا منغلق على نفسه ، فالشاعرة تعتبر نفسها امتدادا متواصلا في التاريخ الجماعي لشعب عريق متجذر منتم إلى الأمة العربية ألا وهو الشعب الفلسطيني ، فالخطاب بصيغة المتكلم في النص يصبح دالا على الأمة ، فتتحد ذات الشاعر مع روح الجماعة ، فالأنا لم تعد تعني في النص أنا الشاعر بل أصبحت أنا الشعب والأمة.
ونلاحظ أن القصيدة قد تشكلت في تسعة مقاطع ، وكل مقطع يبدأ بعبارة ( قولوا لأمي ) وهي متآلفة مع بعضها في انسجام واتحاد تام ؛ لتعبر عن رؤية الشاعرة وحتمية عودتها لوطنها ولتاريخها وأمها مكللة بالعزة والنصر .
ويأتي المقطع الأول في النص ؛ ليصور لنا عزم الشاعرة على عودتها بالنضال والكفاح ، فهي عائدة هذا المساء ، والمساء تعبير عن الحزن والشقاء والتعاسة ، فالفلسطيني يحمل همه وهموم الأمة ، وتنسى الشاعرة أحزانها ، وتعود لوطنها مع النسيم ، تذهل العالم بأصالة هذا الشعب وإصراره على عودته لجذوره ، وتعود بالخصب ( المطر ) لوطن الخصب والخير ( الينابيع )، ليتجدد العطاء كما يتجدد الميلاد من رحم الأنثى :
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ
وتبدأ الحياة ودورة الميلاد من جديد في فلسطين ، ويبدأ التلألؤ كلمعان النجوم والسمو كسموها ، فدورة الحياة : ميلاد وموت وانبعاث ،وتقول في المقطع الثاني إن الغربة قبر وموت ، ولم يعد القبر ملائما كما لم تعد الغربة مناسبة ولا البعد بلائق، فالغربة قبر وموت ، وقبر غير مناسب للشاعرة فهي ترفض البعد القسري عن أمها ، فساعة العودة قد أزفت (المخاضُ على أعتابه) والعودة تحمل في طياتها البشر والعطاء ، وتسمع الشاعرة صوت أمها تدعوها للمجيء والعودة إليها ، وتلبي الشاعرة دعوة أمها وتعود لفلسطين ، وتكرر الشاعرة الفعل ( تجيء ) في هذا المقطع ثلاث مرات تأكيدا على إصرارها بالعودة وحق العودة .
وفي المقطع الثالث تؤكد الشاعرة أن عودتها لأمها خير وبركة ( لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها ) ، فالعلاقة بين الشاعرة وأمها علاقة حب وحنين وتلازم وتبادل ، وتتحدان في ذات واحدة:
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
ولقد بدأت الشاعرة في هذا المقطع – وفي بداية – كل مقطع عبارة ( قولوا لأمي) ، وهذا التكرار لم يأت عبثا بل يدل على إصرار الشاعرة على عودتها لأمها ، فالشاعرة لم تعد تطيق الانتظار والبعد عن فلسطين ، ولن تقبل وطنا بديلا ، وفي المقطع الرابع ترى الشاعرة أن حنينها لأمها ، أبديا ، وأنها لم تنساها في غربتها يوما ، وفي المقطع الخامس تؤكد الشاعرة حبها الحقيقي لمحبوبتها وحبيبها ، وكلما تذكرت النكبة تصرخ بحبها لأمها فلسطين ، فالشعب الفلسطيني لم ولن يقبل بأم بديلا عن وطنه ، وتْؤكد الشاعرة حبها لفلسطين عن طريق تكرار كلمة " أحبك "مرتين في هذا المقطع
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة
وفي المقطع السادس تشكو الشاعرة لأمها ما حصل لها من ذل وتشريد ومهانة وتشريد في منافي الأرض ، وهي تنتظر العودة الميمونة بفارغ الصبر ونلحظ ذهول الشاعرة في غربتها بتكرارها لكلمة " تدور" مرتين في هذا المقطع، لقد أنهكتها الغربة ، لم تعد تقوى على أن تكون قضيتها معلقة
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظر
وفي المقطع السابع تعلن الشاعرة ضيقها ورفضها العيش بعيدا عن أمها الوطن ، تريد الخلاص من سجنها الذي أدماها وأدمى مقلتيها ، تريد الانعتاق ـ تريد التحرر من غربتها وقيدها :
وأدمعي السريةُ تصرخُ
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ
وفي المقطع الثامن تصف الشاعرة أحزانها وتشاؤمها في غربتها وهي بعيدة عن أمها ، فالاحتلال الإسرائيلي ليس كأي احتلال بل هو غزو استيطاني ، العالم الغربي يؤيده ويؤازره ، فمساء الشاعرة غامض ، ينتابها الحزن والأسى كما ينتاب الحزن الإنسان البريء ، وتتساءل الشاعرة هل مرد هذا الحزن هو الشعور بالخزي لأن لكل إنسان وطنا ما عدا الفلسطيني أم مرده الملل والضجر من حياة الغربة والمنافي بعيدا عن الوطن والأم ؟
مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
وفي المقطع التاسع والأخير تجسد الشاعرة مأساتها في غربتها وابتعادها عن الوطن ، فصحراؤها ذابلة ، حيث تتعمق القوة التعبيرية للصحراء ، فهي الوجه المناقض للوطن ، إنها التيه والعذاب والضياع والموت ، فالعرب وصفوا الصحراء بالمهلكة ، فهي رمز لها كما تقول الشاعرة الخنساء :
ليَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ ***** دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتار
و رِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ ***** كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القار
وعينا الشاعرة زائغتان في الطرقات كالإنسان المغشى عليه من هول فقدها لأمها ، لكن بالرغم من ذلك فإنها صنعت من أصابعها ومن جسدها شراعا للعودة إلى فلسطين ، فاسم الشاعرة عائدة ، تريد أن تخفف من شدة حنينها لوطنها ، وتريد أن تتخلص من رتابة الملل والضجر في غربتها ، وليس لها من حل إلا بالعودة والرجوع ، فالشاعرة مصرة ومصمة على العودة إلى الجذور.
قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
ولقد صورت لنا الشاعرة عائدة النوباني بعدستها الشعرية وذائقتها الفنية واقع الإنسان الفلسطيني ومشاعره في المنافي بعيدا عن أرضه ، فابتعدت عن المباشرة ، فلجأت إلى الرمز ، واتسمت القصيدة بمجموعة من الخصائص الفنية التي امتاز بها الشعر الرمزي والشعر الحر، أهمها :
التداخل بين الأبعاد الزمانية والمكانية : 1.
تنقلت شخصية الشاعرة في القصيدة على مستوى البناء بين الحاضر والماضي والمستقبل ، فتنقلت بين حاضرها في غربتها وبين عودتها لوطنها ، ولقد جعلت الفعل المضارع هو المهيمن في النص ؛ ليفيد الاستمرارية والحيوية ، كقولها: أسري ، أكون ، لم يعد ، يناديك ، تجيء ( ثلاث مرات ) تعمد ، أصرخ ، تجف ، تتثاءب ، تهوي ، ينتظر ، أحبك ( مرتين ) أوجعتني ،تدور ( مرتين )سترقص ، أسمع. أكون( مكررة ) ، تشير ، تتحرش ، أسأل ، يسأل ، أمضي .
واتكأت الشاعرة على الفعل الماضي ليفيد السرد القصصي ، كما في مثل :
قولوا ( تكررت عشر مرات ) كنت ، نبت ، سرق ، ارتكب ، قامت ، كنت ، أخذت ، تعرّش ،قلت ، فعل ، نأيت.
وتنقلت الشاعرة بين أماكن غربتها وفي وطنها.
2. لجأت الشاعرة إلى تقنيات فنية مستمدة من الفنون النثرية السردية :
فاستخدمت الحوار : ( قولوا لأمي ) ، ولجأت إلى التداعي الحر من خلال اعتماده في نسج القصيدة على الذاكرة والحواس والخيال ، ومكّنت هذه التقنيات بأن جعلت بناء القصيدة يقترب من البناء الدرامي.
3. الاهتمام بالصورة الشعرية :
، وتدعو الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر، فلابد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة، حتى تستطيع أن نستشف منها معاني الجمال
واللغة الشعرية ـ نفسها ـ ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذ اللغة ـ في نظر الرمزيين ـ قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء، وبالتالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولابد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة ليستوحى ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة ، وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزاً لا تعبيراً ، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة.
فلقد نقلت الشاعرة أحاسيسها ومشاعرها وأفكارها بلغة شعرية فيها التشخيص والتجسيد والرمز ؛ فاهتمت بالمجاز وما فيه من صور شعرية ، كما في مثل :
قبلَ ذهولِ الأرضِ : فقد صورت الشاعرة الأرض بإنسان مذهول.
وانبعاثِ رحمِها : شبهت الشاعرة الأرض بأنثى لها رحم
أنَّ الصمت فاضَ نحوَ الغيوم : شبهت الصمت بالماء
ُوالصرخةُ تهوي به : شبهت الصرخة بشيء يهوي ويسقطِ
أوجعتني الذاكرة : شبهت الذاكرة بالمرض الموجع
حين تنامُ ضفائرُ وجدي ـ شبهت الضفائر بإنسان ينام ، وشبهت الوجد بامرأة لها ضفائر.
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ـ شبهت الجدران بإنسان يتحرش.
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي : شبهت الشاعرة الغرفة براقصة تارة ، وتارة أخرى بامرأة تتوجّع .
وأدمعي السريةُ تصرخُ : شبهت الدموع بكائن حي يصرخ.
ومثلها كثير ، وهي في مجملها استعارات مكنية .
4. استخدمت الشاعرة الرمز ،والرمزيون يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ ليستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة، إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويزيل ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها، على أنه لابد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء فيبتعدون عن المباشرة في الخطاب .
ومن الرموز في النص :
"أمي" ، ورمزت إليها عن فلسطين ، والصحراء الذابلة : رمز الضياع والموت والفناء ، والمساء رمز الشؤم ، والينابيع الغائرة رمز الجدب ، والماء والغيم والمطر رمز الخصب والخير في كل ، والقبر رمز موت الأمل ، حتى مداك َ الأخيرِ أكون : رمز للتضحية اللامتناهية ْ، لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟ : رمز للخير والعطاء ، كيفَ سرقَتني منها الأمهاتُ؟ ؟ رمز عن رفض الشاعرة للوطن البديل ، ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى رمز على أن الشاعرة لم تتوانى في البحث عن طريق تسلكها للعودة لفلسطين ، كوني أمي... فكنتُ، رمز لاتحد وانصهار الشاعرة مع وطنها ،..
أوجعتني الذاكرة : رمز لتألم الشاعرة على فلسطين المزروعة في ذاكرتها ، أطلقوني من صليب النوافذ : رمز لرفض الشاعرة الحياة في المنافي...ومثل هذا كثير في النص .
5. استخدمت الشاعرة الأسطورة أو الحكاية المورثية في التراث :
يلجأ شعراء التفعيلة في كثير من الأحيان إلى الأساطير الشعبية ، أو الأساطير المعروفة عند الأمم الأخرى ، أو إلى القصص والحكايات المعروفة في الكتب المقدسة ، وفي كتب التراث للتعبير عن معان يريدونها ، وقد لجأت الشاعرة عائدة لاستخدام أسطورة الأم أو المرأة عند الكنعانيين التي ترمز للوطن لقد مجدت الحضارة الكنعانية في فلسطين المرأة، حتى أن عشتار وعناة كانتا نائبتين للإله إيل والإله بعل، وبقيت طقوس الحضارة الكنعانية قائمة في الحياة اليومية للناس ،، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين .
6. الوحدة العضوية والموضوعية والصدق الفني.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق