أولا – القصة :
أتأملك يا أبي من وراء فرجة باب حجرة نومي ، صبيحة ليلة عرسي . أتيتَ مبكرا كعادتك عندما تزور بناتك في مثل هذه المناسبة .
أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءً من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي . لم يعد هناك إنسان يهددك بعد أن تزوجت شقيقاتي كلهن غيري يا أبي ، أنا ابنتك التي لم يأتها نصيبها إلا عندما شارفت على الأربعين من العمر .
كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك قائلين :
بيّض الله وجهك يا عمي !.
عندئذ تنفرج أساريرك ، وتسترد أنفاسك ، وتحسو حسوات من الماء البارد لتطفئ الحرائق المستعرة في جوفك . لطالما تمنيتُ وأنا أصغي إلى أحاديثهن تلك أن لا أتزوج أبدا لكيلا أرى وجهك في ذلك الموقف العصيب ، ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهويشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف .
وعندما هممنا بمغادرة العيادة ألقيت بعبارتك في وجهه:
هراء ! . الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !.
حين سمعتُ عبارتك تلك هوى قلبي في جبّ لا قرار لها وهاجت في نفسي عواصف التوجس:
ماذا لو كنتُ مثلها يا أبي ؟ .
أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ .
أين المفر منك آنذاك ؟.
ألوذ بسريري ، أتأمل الضوء الشحيح المنبعث من وراء الستائر الداكنة ، و الهواء يعبث بباب حجرتي . تبدو وأنت جالس في زاوية الصالة كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة ، حين يصغون إلى وقع أقدام جلاديهم وهي تدنو منهم.
كنت تختلس النظر إلى باب حجرتي ومن حين لآخر تنظر إلى الساعة مستبطئا مرور الوقت ، وتطلق زفرة كأنها نفس من أنفاس جهنم .
حدقتُ في عينيك المتقدتين وأبحرتُ في ذهنك الذي تتلاطم فيه أمواج الريبة والخوف ، وقرأتُ أفكارك :
لماذا تأخر زوجها في الخروج من الحجرة ؟ .
لا بد أن هناك خطبا ما ! .
لا .. لا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابنتي فتاة شريفة ، أثق بها . ابنتي الكبرى العاقلة ، أنا ربيتها فأحسنتُ تربيتها ، وأخواتها اللاتي تزوجن قبلها لسن أفضل منها خلقاً وتديناً ، ولكن من يدري ؟ لعل شيئا ما قد حدث لها عندما كانت طفلة ! .
ما أشد تلهفك على رؤية وجه زوجي يا أبتِ !.
أجزم أن ضغطك الآن قد حاذى حدوده القصوى . كل شيء فيك يحترق في أتون الانتظار ، يكاد الدم ينبجس من مسامك ، يتفصد العرق من جبينك غزيراً ، تتحد قطراته وتجري في أخاديد وجهك ثم تنزلق باتجاه ذقنك . غدا وجهك قطعة رمادية باهتة بلون شعرك وأنت ترشف رشفة من العصير ، أخالها تسيل في حلقك كحمم البراكين .
أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش فستاني الواسع ،.أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة التي لا تعرف مكانها يا أبي
مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .
تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ امرأة ، بيتنا الذي يعج بالتفاصيل الأنثوية ، صراخ أمي وهي تضع في المستشفى ، و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة التي تنطقها الممرضة في حرج :
بنت ! .
وضعتُ إصبعيّ في أذنيّ لكيلا أسمع صوتك ، ولكن قهقهتك دوت في حجرات البيت كطلقات مدافع العيد .هائجاً كنتَ ، تصيح تارة وتهذي تارة ، ثم تردد بصوت متحشرج :
الحمد لله .. الحمد لله . ألف مبروك ... ألف مبروك.
ناديتني فلم أقو على الرد ولا على الوقوف على قدميّ ، فاقتحمتَ حجرتي ماداً ذراعيك لتحتضنني .
كان وجهك مشرقاً مبتهجاً كشمس الصباح حين قبّلتَ رأسي ووضعتَ في يدي نقوداً ، مردداً بصوت خنقته العبرة :
بيّض الله وجهك يا ابنتي كما بيّضتِ وجهي !.
تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح.
من مجموعتي القصصية ( سرداب التاجوري )
ثانيا – تحليل القصة "
العنوان :
عندما تتم قراءتنا بتأن وبروية لهذه القصة القصيرة ،فإننا نقترب من الولوج إلى عالم هذه القصة ، وقراءتها قراءة تحليلية ، نقف عند عناصرها ومكوناتها ، ونحاول تلمس الرؤية الحياتية التي هدفت الكاتبة إلى إلقاء الضوء عليها ومعالجة آثارها ، والحيلولة دون الوقع في منغصات العذاب ودياجير الجهل والتخلف.
فالعنوان ( صباح الدم ) والصباحات كثيرة ، مثل صباح الخير التي تعني التحية بين طرفين وتحمل في طياتها المحبة ، وصباح الدم تعبير مجازي استعير للدلالة على البشر والتحية في اليوم التالي للزواج ، ويحمل في طياته عذرية العروس وطهرها وحُسن تربيتها في أعرافنا وعاداتنا وتقليدنا ، وصباح الدم ليس صباحا واحدا بل هو تعبير يستعمل صبيحة اليوم التالي للعروس التي يرافق زواجها نزول الدم ، فهو صباحات تتردد كما تتردد ألفاظ التحايا ، تتردد بعد كل حادثة زواج ثبت للزوج عذرية زوجته ، والفتاة السعيدة من لا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، فالتعبير يدل على فرح أهل الزوجة وتهلل أسارير وجوههم وحُسن سيرتهم ونقاء عروقهم ، فالمعنى الذي تلتقي فيه عبارتا ( صباح الخير ) و( صباح الدم ) هو الفرحة والسرور وابتهاج النفوس في الصباحات المتكررة ، غير أن صباح الدم قد ينعكس سلبا فتلك هي المصيبة الكبرى والطامة العظمى..
عرض القصة :
الحدث :
وفي هذه القصة كما في القصص القصيرة حدث واحد رئيس ،وقد لجأت القاصة إلى سرد الأحداث بلسان شخصية ، من شخصياتها وهي الفتاة الكبرى ، مستخدمة ضمير المتكلم ، وأخذت القاصة تلقي الضوء على هذه الشخصية ، فتحللها تحليلا ً نفسيا ً ، متقمصة شخصية البطل .
القصة عزيزي المتلقي لا تلخّص ، فهي بناء فني متكامل البناء ، لكننا نفعل ذلك مجبرين لغاية تحليلية ونظرة نقدية ، فالحدث الرئيس في هذه القصة يتمثل في كشف أغوار نفسية فتاة ارتسمت في أعماق نفسها عقدة الخوف من ليلة الزفاف وخشيتها ألّا يرافق زواجها نزول دم بكارتها لسبب لا تعرفه وما يرافق ذلك من هموم تقض مضاجع أسرتها وعلى رأسهم الأب ، والهم ليس هما بل هو هموم ، هموم الفتاة ، وهموم الأب ، وهموم الأسرة ، وهموم العائلة ، وهموم الزوج وأسرته وعائلته ، بل هو هموم المجتمعات الشرقية قاطبة.
فالأب يخاف من أن ابنته قد لا يثبت للزوج عذريتها وموقف عصيب في صبيحة اليوم التالي لزواج ابنته ، ينتظر حكم البراءة ، ولنستمع للقاصة تصف مشاعره : " أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءا من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي "
كما تصف القاصة آثار عقدة الخوف المنغرسة في لا شعور العروس في وقت "صباح الدم كما في لا شعور والدها" أعني في صبيحة اليوم التالي لزواجها إذ تقول : " مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .تفتحت كل جراحي القديمة..."
فكم من فتاة بريئة قتلت ظلماً في مجتمعاتنا منذ القدم و إلى الآن ... جريمتها فقط أن لا دماء على المحرمة ... ولقد عبَّرت القاصة عن ذلك على لسان البنت الكبرى : " ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهو يشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف "وهذا منبع قلق لكل فتاة قبيل زفافها ، فهي تخاف من الظلم ومن خطأ الطبيب ، إنه غول فاغر فاه يتربص بها ليلة زفافها .والأب يأتي ليطمئن على سلامة شرف ابنته ، وعندما يشير له العريس بالملاءة البيضاء التي اصطبغت بلون الدم يفرح ويسير بالشارع دونما عكازة ، وكأن شبابه عاد إليه من جديد ، وتتابع الأحداث بوعي القاصة في خلق عنصر التشويق .
الصراع :
والصراع جلي في القصة، وهو لب كل فعل قصصي ، والصراع هنا بين بطل القصة مع نزعة من نزعات النفس ورغبة في تأكيد قيمة أخلاقية واجتماعية ، هو صراع داخلي داخل نفسية الفتاة ويتمثل هل تستطيع أن تبيض وجه أبيها في ليلة العرس أم تفشل؟ وصراع خارجي مع أسرتها والمجتمع ، تقف في وجهه عاجزة القوى يتمثل في ليلة الزفاف أيضا وتفترض أن غشاء بكارتها قد يكون مثل بكارة ابنة عمها ، حينها كيف يقتنع الأب والزوج والناس من براءتها وعذريتها؟
الشخوص :
والشخوص في القصة : وكما هو الحال في القصة القصيرة أن هناك خاصية التركيز التي لا تحتمل أكثر من شخص واحد رئيس أو عدد محدود جدا من الشخوص ، والشخوص في قصتنا ، هم : الأب وبناته الأربع والزوج وابنة العم والطبيب والعريس، والشخصية الرئيسة البنت الكبرى في القصة وعلى لسانها تجري الأحداث ، وكلها تعمل متآزرة لصنع الأحداث وتحريك المواقف .
المكان : هما مكانان متداخلان ، وأحدهما إطار للآخر ، فالإطار هو العالم الشرقي والإسلامي خاصة كما يظهر في العنوان ، أو كقول الأب للطبيب : " الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !. "
وفي داخل هذا الإطار مكان آخر ، وهو بيت العروس ، هو العالم المصغر microcosm)) وفي هذا المكان يكمن مفتاح القصة .
الزمان :
والعنصر الزماني يرتبط ارتباطا عضويا بالعنصر المكاني وبالحدث ، فالحدث في النهاية هو اقتران فعل بزمان ، ويظهر الزمن بوضوح في صبيحة ليلة الزفاف وما يرافق هذه الليلة من حكم وأحكام ، وتستخدم القاصة الاسترجاع للعودة للزمن الماضي ، وهو ما يسمى بتقنية العودة بالأحداث إلى الوراء: ( كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك...)
اللغة :
تتخذ اللغة في القصة القصيرة شكلا ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي، ففي القصة والراوية يسعى الكاتب إلى إدهاش القارئ بتميز سرده أو تماسك حبكته، أما هذا النوع من الأدب القصصي فهو مختلف في كل شيء، حتى في غايته، فالقصة القصيرة لا ترمي إلى عرض مقطع عرضي في لحظة من الزمن ووضعه تحت مجهر السرد كما هو الحال في القصة والرواية ، بل تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ بأسرع ما يمكن اعتمادا على تكنيكات لغوية خاصة.
تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاص لغة خاصة تمتاز بالكثافة العالية، فضلا عن تسارعها المحموم باتجاه النهاية.
وتعني الكثافة قي لغة القصة القصيرة شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني، والتعبير عن أكثر ما يمكن من (الأفعال) بأقل ما يمكن من المفردات. وهذا لا يتأتى إلا بلغة الشعر التي اكتسبت - مع توالي الخبرة الإنسانية عليها - القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
ولننظر مليا في بعض مما جاء في القصة ؛ لنحدد سمات تلك اللغة وتأثير ملامح شعريتها.
إن أهم أركان السرد أن يعمد القاص إلى رسم صور شخصياته وهي (تفعل)، لا أن يخبرنا هو عن (أفعالها)، ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة ، فكثير من الأفعال يعني كثيرا من المعاني وكثيرا من الأحداث.
لنقف عند هذه الجمل المتلاحقة ونرصد ما فيها : (تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ )
فهنا سنلحظ تزاحم الأفعال ، وسيادة الجمل الفعلية ، وخاصة الأفعال المضارعة التي تعني الحيوية والاستمرار في العذابات النفسية .
واللغة الموحية تكنيك آخر من تكنيكات القصة القصيرة يقرب لغتها من لغة الشعر، ففي النص السابق ذاته نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها الجمل السابقة ، ولنتأمل هذه الجمل : (بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة )، فهذه الحركة اختزلت الكثير من الكلام والكثير من الأفعال، وأغنت الكاتب عن العودة إلى أحداث ماضية، عندما أوحت هذه العبارة للقارئ، الشعور السلبي الذي يسري في أواصلها ومفاصلها.
ولننظر للغة الشعرية في بعض عبارات القصة : (و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة ،التي تنطقها الممرضة في حرج (
فنحن هنا أمام لغة شعرية بالكامل بما تحوي من انزياحات وتشبيهات، فضلا عن الموضوع الشعري ذاته المتمثل في تشخيص موح، ومثل هذا النوع من القصص تأخذ فيه الانزياحات الأهمية الأولى قبل الأفعال، فهذه القصة – مثلا- قائمة على إسناد الفعل ( ممتطيا ) إلى ( صهوة الأماني ) وللأماني صهوة كما للحصان مثلا ، وللكلمة التي تنطقها الممرضة صخور .
كما استخدمت القاصة عبارات شائعة في المفهوم الشعبي ، تحمل في طياتها الفصاحة ، كما في مثل : ( بيّض الله وجهك يا عمي ).
وهي حينما تقول : ( أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ ) فهي متأثرة بكلم وبلاغة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول عن أبي ذر : (ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ) ، ويسمى هذا بالتناص ، وهو من نوع التناص الديني.
وتتسم لغة الكاتبة باللغة التصويرية للأحداث كقولها : (أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة)
فكأن المتلقي يتابع شريطا سنمائيا ويرى الأحداث تتتابع بانسياب وتلقائية دون أن يقرأها .
المغزى :
إن القفلة في القصة ضرورية جدا وقد أتقنتها القاصة ، وهي لم تفعل ذلك جزافا، فللقفلة أهمية كبيرة ، فهي النقطة التي تضيء مغزى القصة ؛ لأن جميع الخيوط تتجمع فيها فالقاصة تقول في نهايتها : (تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح. ) فالعروس متعبة من أثر العقدة النفسية التي تعاني منها ، فهي لا تقوى على الذهاب إلى النافذة ( تحاملت على نفسي ) والأب نفض عن نفسه غبار الشيخوخة وعاد إليه شبابه بعدما شعر بأنه لن يلطخ شرفه حقا أو باطلا ، وبعدما ساعد ابنته الحظ بألا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، وسلم من أي مرض مؤذ. ونجحت الكاتبة في وصف الأحداث وسردها بلغة تصويرية كما في المثال السابق
والفتاة الكبرى ترمز لكل فتاة شرقية مقبلة على الزواج ، والأب رمز لكل أب ينتظر أن تكون ابنته عذراء ليلة الزفاف ، وابنة العم ترمز إلى كل فتاة ظلمت وجار عليها المجتمع وتقاليده وجهله، وألصقت بها تهمة الزنا جورا وبهتانا ، ولقد نجحت القاصة في إيجاد المتعة العقلية والذهنية في نفس المتلقي ، والأدب الناجح هو الأدب الذي يولد تلك المتعة.
خصائص هذه القصة
تختلف الخصائص عن العناصر في أن العناصر هي المكونات الرئيسية للعمل أما الخصائص فهي المحدد الأساسي للعمل، بمعنى أدق إن افتقاد العمل لأحد عناصره لا يؤثر في تحديد هوية العمل، هل هو قصة قصيرة أم لا، ولكن إذا افتقدت القصة القصيرة لأحد خصائصها كانت شيئا أخر غير القصة القصيرة.
وهذه الخصائص بالترتيب هي:
1.الوحدة:
و تعني أن كل شيء فيها يكون واحدا، بمعنى أنها تشتمل على فكرة واحدة، وتتضمن حدثا واحدا، وشخصية رئيسية واحدة، ولها هدف واحد...الخ.
ولقد وجهت القاصة مريم الضاني كل جهدها الإبداعي صوب هدف واحد لا تحيد عنه ، وقد اتسمت هذه القصص ب( الوحدة ) ، والمقصود ب( الوحدة )الوحدة في الحدث والموقف ، فالوحدة تتمثل هنا في إظهار أحاسيس فتاة صبيحة ليلة الزفاف.
2.التكثيف والتركيز :
ويقصد به التوجه مباشرة نحو الهدف من القصة مع أول كلمة فيها، فهي كما يقول يوسف إدريس" القصة القصيرة رصاصة، تصيب الهدف أسرع من أي رواية". : وقد تمثل التكثيف في القصة في الاقتصاد في الشخوص والزمان واللغة . ولقد أحسنت الكاتبة صنعا عندما اهتمت بالتركيز في قصتها .
3.الدراما:
ويقصد بها خلق الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل، حتى ولو لم يكن هناك صراع خارجي، ولم تكن هناك غير شخصية واحدة. ، ولقد وفقت القاصة خلق الحركة الديناميكية في قصتها ، فكنا مشدودين معها من أول كلمة إلى أخر القصة ، فكانت قدرة على صنع الحبكة بنجاح وتوفير عنصر التشويق.
فالدراما هي عامل التشويق الذي يستخدمه الكاتب للفت انتباه القارئ، وهي التي تحقق المتعة الفنية للقارئ وتشعر القاص بالرضا عن عمله.
ولقد اعتنت القاصة بتشكيل أساس من أساسيات القصة القصيرة المتمثل ب ( وحدة الانطباع )أو ما يسمى ( وحدة التأثير )وهذا معناه أن جميع عناصر القصة وأجزائها تعمل متآزرة بقصد إحداث الأثر الوجداني الذهني على المتلقي ، ولقد نجحت القاصة بإحداث هذا التأثير .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أتأملك يا أبي من وراء فرجة باب حجرة نومي ، صبيحة ليلة عرسي . أتيتَ مبكرا كعادتك عندما تزور بناتك في مثل هذه المناسبة .
أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءً من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي . لم يعد هناك إنسان يهددك بعد أن تزوجت شقيقاتي كلهن غيري يا أبي ، أنا ابنتك التي لم يأتها نصيبها إلا عندما شارفت على الأربعين من العمر .
كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك قائلين :
بيّض الله وجهك يا عمي !.
عندئذ تنفرج أساريرك ، وتسترد أنفاسك ، وتحسو حسوات من الماء البارد لتطفئ الحرائق المستعرة في جوفك . لطالما تمنيتُ وأنا أصغي إلى أحاديثهن تلك أن لا أتزوج أبدا لكيلا أرى وجهك في ذلك الموقف العصيب ، ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهويشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف .
وعندما هممنا بمغادرة العيادة ألقيت بعبارتك في وجهه:
هراء ! . الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !.
حين سمعتُ عبارتك تلك هوى قلبي في جبّ لا قرار لها وهاجت في نفسي عواصف التوجس:
ماذا لو كنتُ مثلها يا أبي ؟ .
أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ .
أين المفر منك آنذاك ؟.
ألوذ بسريري ، أتأمل الضوء الشحيح المنبعث من وراء الستائر الداكنة ، و الهواء يعبث بباب حجرتي . تبدو وأنت جالس في زاوية الصالة كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة ، حين يصغون إلى وقع أقدام جلاديهم وهي تدنو منهم.
كنت تختلس النظر إلى باب حجرتي ومن حين لآخر تنظر إلى الساعة مستبطئا مرور الوقت ، وتطلق زفرة كأنها نفس من أنفاس جهنم .
حدقتُ في عينيك المتقدتين وأبحرتُ في ذهنك الذي تتلاطم فيه أمواج الريبة والخوف ، وقرأتُ أفكارك :
لماذا تأخر زوجها في الخروج من الحجرة ؟ .
لا بد أن هناك خطبا ما ! .
لا .. لا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابنتي فتاة شريفة ، أثق بها . ابنتي الكبرى العاقلة ، أنا ربيتها فأحسنتُ تربيتها ، وأخواتها اللاتي تزوجن قبلها لسن أفضل منها خلقاً وتديناً ، ولكن من يدري ؟ لعل شيئا ما قد حدث لها عندما كانت طفلة ! .
ما أشد تلهفك على رؤية وجه زوجي يا أبتِ !.
أجزم أن ضغطك الآن قد حاذى حدوده القصوى . كل شيء فيك يحترق في أتون الانتظار ، يكاد الدم ينبجس من مسامك ، يتفصد العرق من جبينك غزيراً ، تتحد قطراته وتجري في أخاديد وجهك ثم تنزلق باتجاه ذقنك . غدا وجهك قطعة رمادية باهتة بلون شعرك وأنت ترشف رشفة من العصير ، أخالها تسيل في حلقك كحمم البراكين .
أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش فستاني الواسع ،.أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة التي لا تعرف مكانها يا أبي
مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .
تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ امرأة ، بيتنا الذي يعج بالتفاصيل الأنثوية ، صراخ أمي وهي تضع في المستشفى ، و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة التي تنطقها الممرضة في حرج :
بنت ! .
وضعتُ إصبعيّ في أذنيّ لكيلا أسمع صوتك ، ولكن قهقهتك دوت في حجرات البيت كطلقات مدافع العيد .هائجاً كنتَ ، تصيح تارة وتهذي تارة ، ثم تردد بصوت متحشرج :
الحمد لله .. الحمد لله . ألف مبروك ... ألف مبروك.
ناديتني فلم أقو على الرد ولا على الوقوف على قدميّ ، فاقتحمتَ حجرتي ماداً ذراعيك لتحتضنني .
كان وجهك مشرقاً مبتهجاً كشمس الصباح حين قبّلتَ رأسي ووضعتَ في يدي نقوداً ، مردداً بصوت خنقته العبرة :
بيّض الله وجهك يا ابنتي كما بيّضتِ وجهي !.
تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح.
من مجموعتي القصصية ( سرداب التاجوري )
ثانيا – تحليل القصة "
العنوان :
عندما تتم قراءتنا بتأن وبروية لهذه القصة القصيرة ،فإننا نقترب من الولوج إلى عالم هذه القصة ، وقراءتها قراءة تحليلية ، نقف عند عناصرها ومكوناتها ، ونحاول تلمس الرؤية الحياتية التي هدفت الكاتبة إلى إلقاء الضوء عليها ومعالجة آثارها ، والحيلولة دون الوقع في منغصات العذاب ودياجير الجهل والتخلف.
فالعنوان ( صباح الدم ) والصباحات كثيرة ، مثل صباح الخير التي تعني التحية بين طرفين وتحمل في طياتها المحبة ، وصباح الدم تعبير مجازي استعير للدلالة على البشر والتحية في اليوم التالي للزواج ، ويحمل في طياته عذرية العروس وطهرها وحُسن تربيتها في أعرافنا وعاداتنا وتقليدنا ، وصباح الدم ليس صباحا واحدا بل هو تعبير يستعمل صبيحة اليوم التالي للعروس التي يرافق زواجها نزول الدم ، فهو صباحات تتردد كما تتردد ألفاظ التحايا ، تتردد بعد كل حادثة زواج ثبت للزوج عذرية زوجته ، والفتاة السعيدة من لا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، فالتعبير يدل على فرح أهل الزوجة وتهلل أسارير وجوههم وحُسن سيرتهم ونقاء عروقهم ، فالمعنى الذي تلتقي فيه عبارتا ( صباح الخير ) و( صباح الدم ) هو الفرحة والسرور وابتهاج النفوس في الصباحات المتكررة ، غير أن صباح الدم قد ينعكس سلبا فتلك هي المصيبة الكبرى والطامة العظمى..
عرض القصة :
الحدث :
وفي هذه القصة كما في القصص القصيرة حدث واحد رئيس ،وقد لجأت القاصة إلى سرد الأحداث بلسان شخصية ، من شخصياتها وهي الفتاة الكبرى ، مستخدمة ضمير المتكلم ، وأخذت القاصة تلقي الضوء على هذه الشخصية ، فتحللها تحليلا ً نفسيا ً ، متقمصة شخصية البطل .
القصة عزيزي المتلقي لا تلخّص ، فهي بناء فني متكامل البناء ، لكننا نفعل ذلك مجبرين لغاية تحليلية ونظرة نقدية ، فالحدث الرئيس في هذه القصة يتمثل في كشف أغوار نفسية فتاة ارتسمت في أعماق نفسها عقدة الخوف من ليلة الزفاف وخشيتها ألّا يرافق زواجها نزول دم بكارتها لسبب لا تعرفه وما يرافق ذلك من هموم تقض مضاجع أسرتها وعلى رأسهم الأب ، والهم ليس هما بل هو هموم ، هموم الفتاة ، وهموم الأب ، وهموم الأسرة ، وهموم العائلة ، وهموم الزوج وأسرته وعائلته ، بل هو هموم المجتمعات الشرقية قاطبة.
فالأب يخاف من أن ابنته قد لا يثبت للزوج عذريتها وموقف عصيب في صبيحة اليوم التالي لزواج ابنته ، ينتظر حكم البراءة ، ولنستمع للقاصة تصف مشاعره : " أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءا من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي "
كما تصف القاصة آثار عقدة الخوف المنغرسة في لا شعور العروس في وقت "صباح الدم كما في لا شعور والدها" أعني في صبيحة اليوم التالي لزواجها إذ تقول : " مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .تفتحت كل جراحي القديمة..."
فكم من فتاة بريئة قتلت ظلماً في مجتمعاتنا منذ القدم و إلى الآن ... جريمتها فقط أن لا دماء على المحرمة ... ولقد عبَّرت القاصة عن ذلك على لسان البنت الكبرى : " ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهو يشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف "وهذا منبع قلق لكل فتاة قبيل زفافها ، فهي تخاف من الظلم ومن خطأ الطبيب ، إنه غول فاغر فاه يتربص بها ليلة زفافها .والأب يأتي ليطمئن على سلامة شرف ابنته ، وعندما يشير له العريس بالملاءة البيضاء التي اصطبغت بلون الدم يفرح ويسير بالشارع دونما عكازة ، وكأن شبابه عاد إليه من جديد ، وتتابع الأحداث بوعي القاصة في خلق عنصر التشويق .
الصراع :
والصراع جلي في القصة، وهو لب كل فعل قصصي ، والصراع هنا بين بطل القصة مع نزعة من نزعات النفس ورغبة في تأكيد قيمة أخلاقية واجتماعية ، هو صراع داخلي داخل نفسية الفتاة ويتمثل هل تستطيع أن تبيض وجه أبيها في ليلة العرس أم تفشل؟ وصراع خارجي مع أسرتها والمجتمع ، تقف في وجهه عاجزة القوى يتمثل في ليلة الزفاف أيضا وتفترض أن غشاء بكارتها قد يكون مثل بكارة ابنة عمها ، حينها كيف يقتنع الأب والزوج والناس من براءتها وعذريتها؟
الشخوص :
والشخوص في القصة : وكما هو الحال في القصة القصيرة أن هناك خاصية التركيز التي لا تحتمل أكثر من شخص واحد رئيس أو عدد محدود جدا من الشخوص ، والشخوص في قصتنا ، هم : الأب وبناته الأربع والزوج وابنة العم والطبيب والعريس، والشخصية الرئيسة البنت الكبرى في القصة وعلى لسانها تجري الأحداث ، وكلها تعمل متآزرة لصنع الأحداث وتحريك المواقف .
المكان : هما مكانان متداخلان ، وأحدهما إطار للآخر ، فالإطار هو العالم الشرقي والإسلامي خاصة كما يظهر في العنوان ، أو كقول الأب للطبيب : " الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !. "
وفي داخل هذا الإطار مكان آخر ، وهو بيت العروس ، هو العالم المصغر microcosm)) وفي هذا المكان يكمن مفتاح القصة .
الزمان :
والعنصر الزماني يرتبط ارتباطا عضويا بالعنصر المكاني وبالحدث ، فالحدث في النهاية هو اقتران فعل بزمان ، ويظهر الزمن بوضوح في صبيحة ليلة الزفاف وما يرافق هذه الليلة من حكم وأحكام ، وتستخدم القاصة الاسترجاع للعودة للزمن الماضي ، وهو ما يسمى بتقنية العودة بالأحداث إلى الوراء: ( كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك...)
اللغة :
تتخذ اللغة في القصة القصيرة شكلا ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي، ففي القصة والراوية يسعى الكاتب إلى إدهاش القارئ بتميز سرده أو تماسك حبكته، أما هذا النوع من الأدب القصصي فهو مختلف في كل شيء، حتى في غايته، فالقصة القصيرة لا ترمي إلى عرض مقطع عرضي في لحظة من الزمن ووضعه تحت مجهر السرد كما هو الحال في القصة والرواية ، بل تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ بأسرع ما يمكن اعتمادا على تكنيكات لغوية خاصة.
تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاص لغة خاصة تمتاز بالكثافة العالية، فضلا عن تسارعها المحموم باتجاه النهاية.
وتعني الكثافة قي لغة القصة القصيرة شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني، والتعبير عن أكثر ما يمكن من (الأفعال) بأقل ما يمكن من المفردات. وهذا لا يتأتى إلا بلغة الشعر التي اكتسبت - مع توالي الخبرة الإنسانية عليها - القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
ولننظر مليا في بعض مما جاء في القصة ؛ لنحدد سمات تلك اللغة وتأثير ملامح شعريتها.
إن أهم أركان السرد أن يعمد القاص إلى رسم صور شخصياته وهي (تفعل)، لا أن يخبرنا هو عن (أفعالها)، ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة ، فكثير من الأفعال يعني كثيرا من المعاني وكثيرا من الأحداث.
لنقف عند هذه الجمل المتلاحقة ونرصد ما فيها : (تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ )
فهنا سنلحظ تزاحم الأفعال ، وسيادة الجمل الفعلية ، وخاصة الأفعال المضارعة التي تعني الحيوية والاستمرار في العذابات النفسية .
واللغة الموحية تكنيك آخر من تكنيكات القصة القصيرة يقرب لغتها من لغة الشعر، ففي النص السابق ذاته نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها الجمل السابقة ، ولنتأمل هذه الجمل : (بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة )، فهذه الحركة اختزلت الكثير من الكلام والكثير من الأفعال، وأغنت الكاتب عن العودة إلى أحداث ماضية، عندما أوحت هذه العبارة للقارئ، الشعور السلبي الذي يسري في أواصلها ومفاصلها.
ولننظر للغة الشعرية في بعض عبارات القصة : (و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة ،التي تنطقها الممرضة في حرج (
فنحن هنا أمام لغة شعرية بالكامل بما تحوي من انزياحات وتشبيهات، فضلا عن الموضوع الشعري ذاته المتمثل في تشخيص موح، ومثل هذا النوع من القصص تأخذ فيه الانزياحات الأهمية الأولى قبل الأفعال، فهذه القصة – مثلا- قائمة على إسناد الفعل ( ممتطيا ) إلى ( صهوة الأماني ) وللأماني صهوة كما للحصان مثلا ، وللكلمة التي تنطقها الممرضة صخور .
كما استخدمت القاصة عبارات شائعة في المفهوم الشعبي ، تحمل في طياتها الفصاحة ، كما في مثل : ( بيّض الله وجهك يا عمي ).
وهي حينما تقول : ( أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ ) فهي متأثرة بكلم وبلاغة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول عن أبي ذر : (ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ) ، ويسمى هذا بالتناص ، وهو من نوع التناص الديني.
وتتسم لغة الكاتبة باللغة التصويرية للأحداث كقولها : (أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة)
فكأن المتلقي يتابع شريطا سنمائيا ويرى الأحداث تتتابع بانسياب وتلقائية دون أن يقرأها .
المغزى :
إن القفلة في القصة ضرورية جدا وقد أتقنتها القاصة ، وهي لم تفعل ذلك جزافا، فللقفلة أهمية كبيرة ، فهي النقطة التي تضيء مغزى القصة ؛ لأن جميع الخيوط تتجمع فيها فالقاصة تقول في نهايتها : (تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح. ) فالعروس متعبة من أثر العقدة النفسية التي تعاني منها ، فهي لا تقوى على الذهاب إلى النافذة ( تحاملت على نفسي ) والأب نفض عن نفسه غبار الشيخوخة وعاد إليه شبابه بعدما شعر بأنه لن يلطخ شرفه حقا أو باطلا ، وبعدما ساعد ابنته الحظ بألا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، وسلم من أي مرض مؤذ. ونجحت الكاتبة في وصف الأحداث وسردها بلغة تصويرية كما في المثال السابق
والفتاة الكبرى ترمز لكل فتاة شرقية مقبلة على الزواج ، والأب رمز لكل أب ينتظر أن تكون ابنته عذراء ليلة الزفاف ، وابنة العم ترمز إلى كل فتاة ظلمت وجار عليها المجتمع وتقاليده وجهله، وألصقت بها تهمة الزنا جورا وبهتانا ، ولقد نجحت القاصة في إيجاد المتعة العقلية والذهنية في نفس المتلقي ، والأدب الناجح هو الأدب الذي يولد تلك المتعة.
خصائص هذه القصة
تختلف الخصائص عن العناصر في أن العناصر هي المكونات الرئيسية للعمل أما الخصائص فهي المحدد الأساسي للعمل، بمعنى أدق إن افتقاد العمل لأحد عناصره لا يؤثر في تحديد هوية العمل، هل هو قصة قصيرة أم لا، ولكن إذا افتقدت القصة القصيرة لأحد خصائصها كانت شيئا أخر غير القصة القصيرة.
وهذه الخصائص بالترتيب هي:
1.الوحدة:
و تعني أن كل شيء فيها يكون واحدا، بمعنى أنها تشتمل على فكرة واحدة، وتتضمن حدثا واحدا، وشخصية رئيسية واحدة، ولها هدف واحد...الخ.
ولقد وجهت القاصة مريم الضاني كل جهدها الإبداعي صوب هدف واحد لا تحيد عنه ، وقد اتسمت هذه القصص ب( الوحدة ) ، والمقصود ب( الوحدة )الوحدة في الحدث والموقف ، فالوحدة تتمثل هنا في إظهار أحاسيس فتاة صبيحة ليلة الزفاف.
2.التكثيف والتركيز :
ويقصد به التوجه مباشرة نحو الهدف من القصة مع أول كلمة فيها، فهي كما يقول يوسف إدريس" القصة القصيرة رصاصة، تصيب الهدف أسرع من أي رواية". : وقد تمثل التكثيف في القصة في الاقتصاد في الشخوص والزمان واللغة . ولقد أحسنت الكاتبة صنعا عندما اهتمت بالتركيز في قصتها .
3.الدراما:
ويقصد بها خلق الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل، حتى ولو لم يكن هناك صراع خارجي، ولم تكن هناك غير شخصية واحدة. ، ولقد وفقت القاصة خلق الحركة الديناميكية في قصتها ، فكنا مشدودين معها من أول كلمة إلى أخر القصة ، فكانت قدرة على صنع الحبكة بنجاح وتوفير عنصر التشويق.
فالدراما هي عامل التشويق الذي يستخدمه الكاتب للفت انتباه القارئ، وهي التي تحقق المتعة الفنية للقارئ وتشعر القاص بالرضا عن عمله.
ولقد اعتنت القاصة بتشكيل أساس من أساسيات القصة القصيرة المتمثل ب ( وحدة الانطباع )أو ما يسمى ( وحدة التأثير )وهذا معناه أن جميع عناصر القصة وأجزائها تعمل متآزرة بقصد إحداث الأثر الوجداني الذهني على المتلقي ، ولقد نجحت القاصة بإحداث هذا التأثير .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق