السبت، 18 فبراير 2012

التحليل الأدبي لخاطرة ( اغتيال حلم ) للأديبة ليلى يوسف . بقلم عبد المجيد جابر

اِغتيال حلم
ليلى يوسف*
http://3.bp.blogspot.com/_Z53-2kHIU5...F+THE+SACK.jpg




أولا - خاطرة اغتيال حلم للكاتبة الأديبة ليلى يوسف :




"حتَّى أنتَ، برُوتُوس!"؛ عِبَارَةٌ نَطَقَ بِهَا يُوليُوس قَيْصَر فِي رَائِعَةِ شِكسبِير الخَالِدَةِ، وَصَارَتْ مَثلًا يُضْرَبُ لِغَدْرِ الْأَصْدِقَاء. الآَنَ، وَبَعْدَ سَنواتٍ طَويلَةٍ مُنْذ كِتَابَة تِلْكَ الرَّائِعَةِ، لَا تَزَالُ العِبَارَةُ الشَّهِيرَةُ تَترَدَّدُ. نَحْن نُرَدِّدُهَا، لَيْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي اليَوْمِ، إنَّمَا مَرَّاتٍ، وَمَرَّاتٍ!




لَا تَقُلْ لِي إِنَّ طَعَنَاتِ الْغَدْرِ لَمْ تَعْرِفْ طَريقَهَا إِلَيْكَ؛ هِيَ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْنَا جَمِيعًا. أَنَا أَشْعُرُ بِهَا الآَنَ، وَجِرَاحِي لَا تَزَالُ تَنزِفُ، وَرُوحِي تَئِنُّ مِنْ وَقْعِ أَلَمِهَا:




"بِالْأَمْسِ، كَانَ لِي حُلمٌ جَمِيلٌ.
كُنْتُ أَحْلَمُ، وَأَحلَمُ، وَأطِيرُ بَعِيدًا.
تَسَابَقتُ مَعَ الطُّيُورِ، وَزَاحَمْتُ السُّحُب.
سَكنْتُ الْقَمَرَ، وَتَلَحَّفْتُ بِجَدَائِلِ الشَّمْس.
صَادَقْتُ النُّجُوم؛ فَهمَسَتْ لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي.
كُنْتُ رَاضِيَةً هَنِيَّةً.
كُنْتُ أَحْلَمُ، وَأحْلَمُ.
فَجْأَةً، نَهَرَتْنِي يَدُ الْغَدْرِ وَالْقَسْوَةِ بِعُنْفٍ، وَأيْقَظَتْنِي مَذْعُورَةً، فَهَوَيْتُ إلَى قَاعِ الْأَرْضِ.
فَجْأَةً، مَاتَ حُلْمِي؛ الْغَدْرُ وَالْقَسْوَةُ تَآمَرَا عَلَيْهِ مُؤَامَرَةً رَهِيبَةً.




اِسْتَيْقَظْتُ وَشَاهَدْتُ بِعَيْنَي مَوْتَ حُلْمِي!
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهْدِ، وَالْجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ."




حَذَار هَذَا الْـ (برُوتُوس)! هُو هُنَا، وَهُنَاكَ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ. هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا، وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا.1
***
-----------------------------------
1. كَانت هَذه السُّطُور مِن أَوائِل مَا نَقشتُه علَى ضَوْء قَلبِي فِي مُنتَصَفِ الثَّمانِينَات؛ وَسبَقَ نَشرُها فِي عِدَّةِ مَطبُوعاتٍ دَوْليَّة بِاللُغَتَيْن العَربِيَّة وَالإنجِلِيزِيَّة. لَا أَدرِي لمَ اِمتَدَّت يَدِي تُنقِّبُ عَنهَا بَعدَ كُلِّ هَذه السَّنوَات!
لَا أَظنُّ أنَّ شِكسبِير اِستَخدَم كَلمَة (برُوتُوس) عَفويًّا؛ فَهيَ مُشتَقَّة مِن كَلمَة (Brutality) الإنْجلِيزِيَّة، وَالَّتي يَتضَمَّن مَعنَاها القَسوَة وَالوَحشِيَّة، كُلّ مِنهُمَا لَا يَقلُّ بَشاعَةً عَنِ الغَدرِ.


التحليل الأدبي: بقلم ماجد جابر

جو النص
طعنت الكاتبة بخناجر غدر من أقرب المقربين لها، فانتابتها موجات انفعال عاطفي وأخذت أساليب الشعر تغتلي في ذهنها وتتضارب العواطف في قلبها. الأساليب الشعرية تدفقت في غير تعمد وتكلف كالسيل؛ فأنتجت عملا أدبيا يهز المشاعر والأحاسيس، ولا نملك من أنفسنا شيئا إلا أن نتفاعل معه وتشرئب نفوسنا إليه.
الأفكار الرئيسة :
1. تروي لنا الكاتبة أنها كانت تحلم بالسعادة قبل أن تفاجئها سهام الغدر، وأنها كانت في حياتها راضية مرضية.
2. الكل يتعرض لحالات الغدر في حياته.
3. تعرضت الكاتبة لطعنات غدر قوية ودامية أدت إلى المفارقة.
4. تفاجأ كاتبتنا بسهام الغدر من حيث لا تحتسب، وهنا القسوة والضراوة ومكمن الألم والحزن والتأوه.
5. تذكر الكاتبة هول المفارقة بين ماض حالم زاهر ينقضي سريعا لتحل محله سهام غادرة انصبت على مشاعرها على حين غرة.
6. تصف الكاتبة آثار الغدر الدامية على نفسها وقلبها ومشاعرها، وتنعي أحلامها الوردية. فالنص يتسم بالوحدة الموضوعية.


العاطفة
ا. زهو الكاتبة بأحلامها الوردية وأمانيها الجميلة قبل هول المفاجأة الغادرة التي لم تحسب لها حسابا ، فقد كانت في الأعالي منشرحة الصدر.
2. كرها للحالة الدراماتيكية التي ألمت بها فجأة.
3. عاطفة الألم التي اجتاحتها بسب سهام الغدر.
4. إشفاق الكاتبة على مشاعرها النازفة.
5. عاطفة اليأس من كل قريب أو حبيب أو صديق.
وكلّ هذه عواطف إنسانية صادقة صادرة من الأعماق.

الخصائص الأسلوبية
العنوان :
أ. يقال قتله غيلة: أي وهو أن يخدع إنسان آخر فيذهب به ويقتله. ومعنى :" الحلم " المعجمي : ما يراه النائم في نومه، وقد تطور معناها الدلالي ليفيد ما يتمناه المرء ويسعد به في حياته .
فالعنوان، (اغتيال حلم)، موح ومعبر، ويتمثل في أن الكاتبة كانت لها آمال عراض ملأت حياتها بالسعادة والأمان والاطمئنان ، وكانت تركن لصديق يساعدها في تحقيق آمالها هذه؛ غير أن هذا الصديق لم تكن بسماته صادقة، بل صفراء، فاستغل براءة الكاتبة وخدعها بعد أن طمأنها ووعدها بالآمال الكبيرة. ركنت إلى ذلك، فجاءتها سهام الغدر من حيث لا تحتسب لتحصل المفارقة الرهيبة.
لقد وفقت الكاتبة في اختيارها لهذا العنوان الدال والمعبِّر.

ب. استخدمت الكاتبة كثيرا من الألفاظ في معانيها الحقيقية لتوضيح أفكارها ونقل المعاني لمستمعيها؛ وهي ألفاظ سهلة جميلة تناسب الغرض الأدبي.

ج. استخدمت الكاتبة اللغة الواقعية الحية التي لا تحتاج إلى معاجم أو قواميس دون أن ينقصها الإيحاء؛ وهي مشحونة بالعواطف الجياشة، ملائمة للموقف ومتناسقة مع الإحساس. ففي بداية النص كانت الشاعرة سعيدة قبل الغدر، فاختارت الألفاظ المناسبة لذلك، مثل:

حلم ، جميل، أحلم، أطير، الطيور، النجوم ، القمر، الشمس، تسابقت، زاحمت ، راضية ، هانئة... إلخ.
وعندما عبّرت عن ألمها من الغدر اختارت الألفاظ الملائمة لحالتها النفسية، مثل: مذعورة ، هويت، قاع الأرض، مات، الغدر، القسوة، تآمر، رهيبة، الجرح، ينزف ، بروتوس، يتربص، يغتال.

د. تحدثت الكاتبة عن الآخر، وهو من تسبب في إلحاق الأذى النفسي والألم بها، فرمزت له بـ ( بروتوس )؛ وهي خصيصة من خصائص النص الأدبي الناجح.

ه. اتكأت الكاتبة على الفعل الماضي الذي يصلح للسرد القصصي، كقولها: كان، كُنتُ، تَسَابقتُ، وزاحمت، صَادَقتُ، فَهمَسَت، وَهَمَسْتُ، نَهرَتنِي، وَأيقَظَتنِي، سَكنتُ، وتَلحَّفتُ، فَهَوَيتُ.
ونلاحظ أن الفعل قد اقترن بضمير الفاعل، وهو (التاء)، لتجسيد عمق المأساة التي انهالت عليها هي دون غيرها؛ ولتكون الفردية المطلقة. كما استخدمت الشاعرة أسلوب المتكلم لتأكيد الذات.

وقد استخدمت الكاتبة مفردات الفعل المضارع لما فيها من استمرارية، استمرارية المأساة ونزف الجراح، التي لم تكن في الماضي، كقولها:
لَا تَزَالُ تَنْزِفُ، يَترَبَّصُ، يَغْتَالُ.

و. أفادت الكاتبة من مدرسة الرومانسيين، فنهلت من معجمهم الشعري وتغنت ببعض عناصر الطبيعة، كما في: الطيور، النجوم، القمر، الشمس، الأرض...إلخ.
كذلك، أفادت من الرمزية، فاستخدمت (بروتوس) رمزا للصاحب الغادر. والرمز يكون أكثر إيحاء في دلالاته على المعاني، وأكثر تصويرا للأحاسيس. وأجرت تبادلا بين معطيات الحواس كما هو الحال عند الرمزيين، كقولها: وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي!.

2. الأساليب الخبرية والإنشائية
ا. استخدمت الكاتبة أساليب متنوعة تناسب الغرض، فتنقلت من الأسلوب الخبري الدال على التشاؤم والحزن والأسى ووقع الجراح. أما أسلوب الإنشاء – وهو قليل – فقد جاء ليفيد النصح والإرشاد من غدر الغادرين والمتآمرين.

ب. استخدمت الكاتبة المزج بين التجربة الذاتية والتجارب الجمعية للناس جميعا وللإنسانية كلها؛ لتحذر من الغادرين وسهامهم. ومن خلال هذا المزج، أقامت الكاتبة التوازن الداخلي بين الفكرة والعاطفة، مما يولد التحام مكونات العمل الأدبي ليغدو عملا فنيا رائعا:
اِسْتَيقَظتُ وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي!
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهدِ، وَالجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ...(تجربة ذاتية)
هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا، وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا (تجربة جمعية)

ج. الإطناب، كقولها: (كُنتُ أَحلَمُ، وَأَحلمُ). ففي هذا السطر الشعري النثري، إطناب لتأكيد الحلم الجميل في نفس المتلقي قبل الغدر. وقولها: (هُو هُنَا، وَهُنَاكَ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ. هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا ...) إطناب بالتكرار في معرض الإنذار وتحذير المتلقي من هول فعل الغدر والتنبيه من الغادرين والاحتراس من شنيع أفعالهم.
وقد جاء الإطناب لتمكين المعنى في النفس، ولإظهار قيمة السعادة التي تغشت نفس الكاتبة والنشوة التي كانت تسري في مفاصلها قبل أن تبتلى بالخداع والغدر:
كُنتُ أَحلَمُ، وَأَحلمُ، وَأطِيرُ بَعيدًا.
وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي.

د. الإيجاز بالحذف والتقدير:
"نَهرَتنِي يَدُ الغَدرِ وَالقَسوَةِ بِعُنفٍ، وَأيقَظَتنِي (بعدما) سَكِنتُ القَمر".


3. التناص
وظّفت الكاتبة في نصها الأدبي النصوص التراثية الإنسانية التي تغني تجربتها الشعورية وتوفر لها طاقات إيحائية واسعة، فاستخدمت (بروتوس) رمزا لغدر الصديق والصاحب لصاحبه، وهو تناص أدبي استخدمه شكسبير في مسرحيته المشهورة، وتناص تاريخي، حيث غدر بروتوس بأقرب المقربين إليه ومن أفضل من رعاه وأحسن إليه. واستخدمت الشاعرة هذا الرمز لتعبِّر عن رفضها للغدر والغادرين وتحذر منهم: حَذَار هَذَا الْـ (برُوتُوس)!

4.المحسِّنات البديعيَّة
أ. المقابلة، كما في: ؛ فَهمَسَت لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي. وفيها توحد بين المبدع والطبيعة المتبع في المذهب الرومانسي.
ب. الطباق: فطابقت بين كل من هنا وهناك، وبين الشمس والأرض.

ومن أبرز خصائص النص، الوحدة العضوية، والوحدة الموضوعية، والصدق الفني.

ثانيا - التصوير الفني
1. الاستعارات

أ. ومن الاستعارات المكنية ما يلي:
نَهرَتنِي يَدُ الغَدر: شبهت الغدر بإنسان له يد.
وَأطِيرُ بَعيدا : شبهت الكاتبة نفسها بالطائر.
صَادَقتُ النُّجُوم؛ فَهمَسَت لِي ...: شبهت الشاعرة النجوم بإنسان يصادق ويهمس.
وفيها توحد بين الشاعرة والطبيعة.
... بِجدَائلِ الشَّمس: شبهت الشمس بامرأة لها جدائل.
الغدر وَالقَسْوَةُ تَآمَرَا عَليْهِ: شبهت كلا من الغدر والقسوة بإنسان يتآمر.
(حلمي مات) و (َشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي) : شبهت الكاتبة الحلم في كلٍّ بكائن حي يموت.
يَترَبَّصُ بِنَا: شبهت الغادر بوحش وعدو يستفز.

ب. الاستعارة التصريحية:
وتَلحَّفتُ بِجدَائلِ الشَّمس : شبهت نورانية الشمس لها باللحاف؛ وفيها كناية عن سعادتها.
وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا: شبهت الكاتبة فقد الأحلام بالإغتيال والقتل بخدعة.

2. الكنايات
(كَانَ لِي حُلمٌ جَميلٌ): كناية عن الآمال الجميلة.
(وَأطِيرُ بَعيدا )، و(َتسَابقتُ معَ الطُّيُور)، و(زَاحَمتُ السُّحب)، و(صَادَقتُ النُّجُوم)، و(فَهمَسَت لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي).
كناية في كلٍّ عن الفرحة الغامرة التي تسري في نفس الكاتبة.
(إغتيَالُ حُلم) و(مَاتَ حُلمِي):كناية عن ضياع الأمل في كلٍّ.
فَهَوَيتُ إلَى قَاعِ الأَرْضِ: كناية عن فداحة ما حلَّ بها من شدة وقع الغدر.
الجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ: كناية عن استمرار الأذى النفسي الذي أحدثته سهام الغدر.
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهدِ: كناية عن الأمل الذي لم يدم طويلا في نفس الكاتبة.

3. المجاز المرسل
يد الغدر: ذكرت الكاتبة السبب، (اليد)، والمسبب، مجاز مرسل له علاقته السببية.

ثالثا - شخصية الكاتبة
اتّسمت المعاني والأفكار والصور الفنية التي اتكأت عليها الكاتبة بالبساطة والرقة والعذوبة، إذ تبدو الكاتبة من خلالها جيّاشة رقيقة العاطفة، مرهفة الإحساس، قلقة ومتألمة من فعلة الصاحب وشنيع صنعه؛ تفاجأت بخسته ودناءته. فهي تأبى الغدر، وتفي بالصحبة والصداقة، وتؤمن بالمثل والقيم العليا.

رابعا – الوزن والموسيقى
نظَّمت الكاتبة النص على نمط النثر الشعري؛ فقد تخلصت من الرتابة في القافية الموحدة، وجاءت بالمقطوعات حسب التدفق العاطفي للكاتبة ، مما ساهم في المحافظة على الوحدة العضوية والموضوعية في النص. هذا التدفق تمثل في غدر الصاحب الغادر والصديق المخادع وسلبه للأماني والآمال، والتحذير منه.
***
----------------------------------------------------
*. ليلى يوسف كاتبة وصحفية ولغوية مصرية مقيمة في إنجلترا. صدر لها كتاب "خربشة الطفل" باللغة الإنجليزية، وتعد دراسات مستفيضة باللغة الإنجليزية عن الحقيقة المطلقة استغرقت قرابة ربع قرن من الزمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق