السبت، 18 فبراير 2012

قصيدة ( قولوا لأمي ) لعائدة النوباني ، تحليل : عبد المجيد جابر

أولا : القصيدة 

قولوا لأمي
عائدةٌ أنا هذا المساءْ ،
أسري في النسيمِ
شرياناً للذهولْ ،
مسرّةً للماءِ ... مطراً..
نبيةً ..
في غسق الينابيعِ الغائرةِ ،
- سرِّي ؟!
-أنثىً كنتُها
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ
*****
قولوا لأمي
القبرُ لم يعدْ يليقُ بها
المخاضُ على أعتابهِ
يناديكِ تعالي...
وتجيءْ ...
كالمعجزةِ تجيءُ
كأولِ البشرِ ...
أسطورةً وحدهَا... تجيء
تعمِّدُ راحتيَّ بحنائِكَ الكونيْ
أصرخُ
من ارتكب الخطيئةَ ...
أنا أم هوْ ؟؟
*****

قولوا لأمي
أطرافي غيمٌ
لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟
كيفَ سرقَتني منها
الأمهاتُ...؟؟
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
*****
قولوا لأمي
ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى
في فضاءِ الجنونْ
ما نَسيتُ كفّيها في السماء
....تلك الطفلةُ
منذورةٌ للذبولِ ...
فامتحِنيْها حبراً من نُسغِ الروحِ
كلّما أنَّ الصمتُ
فاضَ نحوَ الغيومِ ...
والصرخةُ تهوي بهِ
صخرةً سرمدية الحنينْ
*****
قولوا لأمي
سبّابةُ المواجعِ القديمةِ
تشيرُ إلىّ كلّما أخذتُ رأسهُ
بين جنونينا
وانبريتُ كالريحِ ...
كلّما غنيتُ
تعرَّشَ الشيطانُ
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة...
منذ حينٍ ماتَ !
وحين أسمع الصدى... أحبكِ...
أكون قد متُ
في صيفٍ بعيدْ ...
*****
قولوا لأمي
تلك هي الخاتمةْ
وذاك ما فعلته الريحُ بقبري .
حروفٌ مبعثرةٌ تدورُ
تدورُ ...
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظرْ
*****
في موتي القادم..
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي
وأدمعي السريةُ تصرخُ :
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ .

******
مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
*****
قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
 

ثانيا : التحليل الأدبي للنص 
العرض :
تعبر لنا الشاعرة في هذه القصيدة عن الحالة النفسية التي تعيشها بسبب فقدها للوطن والغربة والاغتراب، وتقتنص من مظاهر الطبيعة صوراً رمزية توحي لنا بحالته النفسية. والشعر فيه شيء من غموض، ولكنه غموض يوحي لقارئه بإدراك المعنى والجو النفسي الذي تعيشه الشاعر،
وأول ما يطالعنا مطلع القصيدة ( قولوا لأمي ) ، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين ‘ فالعلاقة بين الأم والأرض أو الوطن علاقة تلازمية , وفيها من التلاحم ما لا يمكن فصله أو انعتاقه. فثنائية الأرض والمرأة ( الأم ) ثنائية المتحققة في النص شاهدا على أن الشاعرة عائدة قد تعاملت مع أرضها الضائعة ليس من منظور المكان الذي يحتوي الإنسان ، بل من منظور أن وطنها المفقود هو لب تفكيرها وكينونتها وشعورها وهذا لا يتحقق إلا به، وهذه الأفكار منقوشة في اللاوعي الفردي للشاعرة كما هي راسخة في اللاوعي الجمعي.
ولنتأمل العنوان مرة أخرى " قولوا لأمي ) فسوف نرى أنفسنا أننا نقف أمام إصرار الشاعرة على المقاومة والتحدي ، فلقد اختارت الشاعرة فعل الأمر" قولوا "وهي صيغة تدل على فداحة الخطر وعظيم المأساة ، فالشاعرة أجبرها الاحتلال على الهجرة بعيدا عن الوطن في منافي الأرض البعيدة ، ورغم البعد إلا أن الشاعرة تصر على العودة إلى جذورها ، إلى أمها ، إلى أرضها .
فالوطن عند الشاعرة الأم يتجلى عطاؤها من خلال المطر والماء والينبوع ، والإنسان الفلسطيني يتجلى إبداعه ويظهر خصوبته من خلال الأم ( الوطن )
وإذا قرأنا النص قراءة متأنية ، فإننا سنجد الخطاب الشعري فيه يتمركز حول شخصية الشاعرة ، ولكن تلك الشخصية لا تبدو نفسا أو ذاتا أو فردا منغلق على نفسه ، فالشاعرة تعتبر نفسها امتدادا متواصلا في التاريخ الجماعي لشعب عريق متجذر منتم إلى الأمة العربية ألا وهو الشعب الفلسطيني ، فالخطاب بصيغة المتكلم في النص يصبح دالا على الأمة ، فتتحد ذات الشاعر مع روح الجماعة ، فالأنا لم تعد تعني في النص أنا الشاعر بل أصبحت أنا الشعب والأمة.
ونلاحظ أن القصيدة قد تشكلت في تسعة مقاطع ، وكل مقطع يبدأ بعبارة ( قولوا لأمي ) وهي متآلفة مع بعضها في انسجام واتحاد تام ؛ لتعبر عن رؤية الشاعرة وحتمية عودتها لوطنها ولتاريخها وأمها مكللة بالعزة والنصر .
ويأتي المقطع الأول في النص ؛ ليصور لنا عزم الشاعرة على عودتها بالنضال والكفاح ، فهي عائدة هذا المساء ، والمساء تعبير عن الحزن والشقاء والتعاسة ، فالفلسطيني يحمل همه وهموم الأمة ، وتنسى الشاعرة أحزانها ، وتعود لوطنها مع النسيم ، تذهل العالم بأصالة هذا الشعب وإصراره على عودته لجذوره ، وتعود بالخصب ( المطر ) لوطن الخصب والخير ( الينابيع )، ليتجدد العطاء كما يتجدد الميلاد من رحم الأنثى :
قبلَ ذهولِ الأرضِ
وانبعاثِ رحمِها...
نجمةَ البَدءِ
حتى مداك َ الأخيرِ
أكونْ

وتبدأ الحياة ودورة الميلاد من جديد في فلسطين ، ويبدأ التلألؤ كلمعان النجوم والسمو كسموها ، فدورة الحياة : ميلاد وموت وانبعاث ،وتقول في المقطع الثاني إن الغربة قبر وموت ، ولم يعد القبر ملائما كما لم تعد الغربة مناسبة ولا البعد بلائق، فالغربة قبر وموت ، وقبر غير مناسب للشاعرة فهي ترفض البعد القسري عن أمها ، فساعة العودة قد أزفت (المخاضُ على أعتابه) والعودة تحمل في طياتها البشر والعطاء ، وتسمع الشاعرة صوت أمها تدعوها للمجيء والعودة إليها ، وتلبي الشاعرة دعوة أمها وتعود لفلسطين ، وتكرر الشاعرة الفعل ( تجيء ) في هذا المقطع ثلاث مرات تأكيدا على إصرارها بالعودة وحق العودة .
وفي المقطع الثالث تؤكد الشاعرة أن عودتها لأمها خير وبركة ( لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها ) ، فالعلاقة بين الشاعرة وأمها علاقة حب وحنين وتلازم وتبادل ، وتتحدان في ذات واحدة:
وقامت نطفةٌ تتثاءبُ
تناديني...
كوني أمي...!
فكنتُ
ولقد بدأت الشاعرة في هذا المقطع – وفي بداية – كل مقطع عبارة ( قولوا لأمي) ، وهذا التكرار لم يأت عبثا بل يدل على إصرار الشاعرة على عودتها لأمها ، فالشاعرة لم تعد تطيق الانتظار والبعد عن فلسطين ، ولن تقبل وطنا بديلا ، وفي المقطع الرابع ترى الشاعرة أن حنينها لأمها ، أبديا ، وأنها لم تنساها في غربتها يوما ، وفي المقطع الخامس تؤكد الشاعرة حبها الحقيقي لمحبوبتها وحبيبها ، وكلما تذكرت النكبة تصرخ بحبها لأمها فلسطين ، فالشعب الفلسطيني لم ولن يقبل بأم بديلا عن وطنه ، وتْؤكد الشاعرة حبها لفلسطين عن طريق تكرار كلمة " أحبك "مرتين في هذا المقطع
على صوتي...
كلّما قلتُ له : أحبكَ
أوجعتني الذاكرة
وفي المقطع السادس تشكو الشاعرة لأمها ما حصل لها من ذل وتشريد ومهانة وتشريد في منافي الأرض ، وهي تنتظر العودة الميمونة بفارغ الصبر ونلحظ ذهول الشاعرة في غربتها بتكرارها لكلمة " تدور" مرتين في هذا المقطع، لقد أنهكتها الغربة ، لم تعد تقوى على أن تكون قضيتها معلقة
وصوتي معلقٌ
في الفضاء ينتظر
وفي المقطع السابع تعلن الشاعرة ضيقها ورفضها العيش بعيدا عن أمها الوطن ، تريد الخلاص من سجنها الذي أدماها وأدمى مقلتيها ، تريد الانعتاق ـ تريد التحرر من غربتها وقيدها :
وأدمعي السريةُ تصرخُ
أطلقوني من صليب النوافذ
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ...
أعلنوني نغماً للنهاياتِ ...
أغنيةً مذبوحةً على كفِّ الأجلْ
وفي المقطع الثامن تصف الشاعرة أحزانها وتشاؤمها في غربتها وهي بعيدة عن أمها ، فالاحتلال الإسرائيلي ليس كأي احتلال بل هو غزو استيطاني ، العالم الغربي يؤيده ويؤازره ، فمساء الشاعرة غامض ، ينتابها الحزن والأسى كما ينتاب الحزن الإنسان البريء ، وتتساءل الشاعرة هل مرد هذا الحزن هو الشعور بالخزي لأن لكل إنسان وطنا ما عدا الفلسطيني أم مرده الملل والضجر من حياة الغربة والمنافي بعيدا عن الوطن والأم ؟

مسائي غامضٌ
كلمعةٍ في حزنِ البريء .
خزيٌ هي أم ضجرْ ؟؟
أسألُ عني كلّما نأيتُ
ويسألُ عني
حين تنامُ ضفائرُ وجدي
على ضفةِ نبعٍ مسكونٍ بالغيابْ
وفي المقطع التاسع والأخير تجسد الشاعرة مأساتها في غربتها وابتعادها عن الوطن ، فصحراؤها ذابلة ، حيث تتعمق القوة التعبيرية للصحراء ، فهي الوجه المناقض للوطن ، إنها التيه والعذاب والضياع والموت ، فالعرب وصفوا الصحراء بالمهلكة ، فهي رمز لها كما تقول الشاعرة الخنساء :
ليَبكِهِ مُقتِرٌ أَفنى حَريبَتَهُ ***** دَهرٌ وَحالَفَهُ بُؤسٌ وَإِقتار
و رِفقَةٌ حارَ حاديهِم بِمُهلِكَةٍ ***** كَأَنَّ ظُلمَتَها في الطِخيَةِ القار


وعينا الشاعرة زائغتان في الطرقات كالإنسان المغشى عليه من هول فقدها لأمها ، لكن بالرغم من ذلك فإنها صنعت من أصابعها ومن جسدها شراعا للعودة إلى فلسطين ، فاسم الشاعرة عائدة ، تريد أن تخفف من شدة حنينها لوطنها ، وتريد أن تتخلص من رتابة الملل والضجر في غربتها ، وليس لها من حل إلا بالعودة والرجوع ، فالشاعرة مصرة ومصمة على العودة إلى الجذور.

قولوا لأمي
جسدي مدىً
وصحرائي ذابلةٌ
عينايَ ذاكرةٌ للطرقات
أصابعي أشرعةٌ لاسمي
أمضي ...
حنيني قاتلٌ ....
ضجري قاتلٌ ....
وروحي ... معابرٌ للسراب...
أيّها الغائبُ في عينيه
ولقد صورت لنا الشاعرة عائدة النوباني بعدستها الشعرية وذائقتها الفنية واقع الإنسان الفلسطيني ومشاعره في المنافي بعيدا عن أرضه ، فابتعدت عن المباشرة ، فلجأت إلى الرمز ، واتسمت القصيدة بمجموعة من الخصائص الفنية التي امتاز بها الشعر الرمزي والشعر الحر، أهمها : 
التداخل بين الأبعاد الزمانية والمكانية : 1.

تنقلت شخصية الشاعرة في القصيدة على مستوى البناء بين الحاضر والماضي والمستقبل ، فتنقلت بين حاضرها في غربتها وبين عودتها لوطنها ، ولقد جعلت الفعل المضارع هو المهيمن في النص ؛ ليفيد الاستمرارية والحيوية ، كقولها: أسري ، أكون ، لم يعد ، يناديك ، تجيء ( ثلاث مرات ) تعمد ، أصرخ ، تجف ، تتثاءب ، تهوي ، ينتظر ، أحبك ( مرتين ) أوجعتني ،تدور ( مرتين )سترقص ، أسمع. أكون( مكررة ) ، تشير ، تتحرش ، أسأل ، يسأل ، أمضي .
واتكأت الشاعرة على الفعل الماضي ليفيد السرد القصصي ، كما في مثل :
قولوا ( تكررت عشر مرات ) كنت ، نبت ، سرق ، ارتكب ، قامت ، كنت ، أخذت ، تعرّش ،قلت ، فعل ، نأيت.
وتنقلت الشاعرة بين أماكن غربتها وفي وطنها.
2. لجأت الشاعرة إلى تقنيات فنية مستمدة من الفنون النثرية السردية :
فاستخدمت الحوار : ( قولوا لأمي ) ، ولجأت إلى التداعي الحر من خلال اعتماده في نسج القصيدة على الذاكرة والحواس والخيال ، ومكّنت هذه التقنيات بأن جعلت بناء القصيدة يقترب من البناء الدرامي.
3. الاهتمام بالصورة الشعرية :
، وتدعو الرمزية إلى الاهتمام بالموسيقى اللفظية في الشعر، فلابد من العناية بالصورة الشعرية عناية فائقة، حتى تستطيع أن نستشف منها معاني الجمال
واللغة الشعرية ـ نفسها ـ ما هي إلا وسيلة إيحاء توحي بالخواطر والمشاعر والأحاسيس والرؤى والأحلام والحالات النفسية من الكاتب إلى القارئ، إذ اللغة ـ في نظر الرمزيين ـ قاصرة وعاجزة عن أن تنقل لنا حقائق الأشياء، وبالتالي ليست بوسيلة لنقل المعاني المحددة، أو الصور المرسومة الأبعاد، ولابد من أن تبدأ الصور التعبيرية من الأشياء المادية المحسوسة ليستوحى ظلالها وأثرها العميق في النفس وفي منطقة اللاشعور، أو العقل الباطن، وهي منطقة لا يدركها العقل الواعي ولا يسلم بها، ولا تبرز مخزوناتها إلا في الأحلام، وأحلام اليقظة ، وفي هذا المجال تصير اللغة الشعرية رمزاً لا تعبيراً ، وعملية إيحاء لشتى الصور والأخيلة.
فلقد نقلت الشاعرة أحاسيسها ومشاعرها وأفكارها بلغة شعرية فيها التشخيص والتجسيد والرمز ؛ فاهتمت بالمجاز وما فيه من صور شعرية ، كما في مثل :
قبلَ ذهولِ الأرضِ : فقد صورت الشاعرة الأرض بإنسان مذهول.
وانبعاثِ رحمِها : شبهت الشاعرة الأرض بأنثى لها رحم

أنَّ الصمت فاضَ نحوَ الغيوم : شبهت الصمت بالماء
ُوالصرخةُ تهوي به : شبهت الصرخة بشيء يهوي ويسقطِ
أوجعتني الذاكرة : شبهت الذاكرة بالمرض الموجع

حين تنامُ ضفائرُ وجدي ـ شبهت الضفائر بإنسان ينام ، وشبهت الوجد بامرأة لها ضفائر.
من الجدرانِ التي تتحرّشُ بي ـ شبهت الجدران بإنسان يتحرش.
غرفتي سترقصُ موجوعةً بي : شبهت الشاعرة الغرفة براقصة تارة ، وتارة أخرى بامرأة تتوجّع .
وأدمعي السريةُ تصرخُ : شبهت الدموع بكائن حي يصرخ.
ومثلها كثير ، وهي في مجملها استعارات مكنية .
4. استخدمت الشاعرة الرمز ،والرمزيون يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية الخطابية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ ليستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة، إذ إن الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل، ويزيل ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها، على أنه لابد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء فيبتعدون عن المباشرة في الخطاب .
ومن الرموز في النص :
"أمي" ، ورمزت إليها عن فلسطين ، والصحراء الذابلة : رمز الضياع والموت والفناء ، والمساء رمز الشؤم ، والينابيع الغائرة رمز الجدب ، والماء والغيم والمطر رمز الخصب والخير في كل ، والقبر رمز موت الأمل ، حتى مداك َ الأخيرِ أكون : رمز للتضحية اللامتناهية ْ، لغتي ماءٌ فكيفَ نبَتُّ فيها
سنبلةً لا تجفُّ ؟ : رمز للخير والعطاء ، كيفَ سرقَتني منها الأمهاتُ؟ ؟ رمز عن رفض الشاعرة للوطن البديل ، ما غَربتْ شمسُ صرختيَ الأولى رمز على أن الشاعرة لم تتوانى في البحث عن طريق تسلكها للعودة لفلسطين ، كوني أمي... فكنتُ، رمز لاتحد وانصهار الشاعرة مع وطنها ،..
أوجعتني الذاكرة : رمز لتألم الشاعرة على فلسطين المزروعة في ذاكرتها ، أطلقوني من صليب النوافذ : رمز لرفض الشاعرة الحياة في المنافي...ومثل هذا كثير في النص .


5. استخدمت الشاعرة الأسطورة أو الحكاية المورثية في التراث :
يلجأ شعراء التفعيلة في كثير من الأحيان إلى الأساطير الشعبية ، أو الأساطير المعروفة عند الأمم الأخرى ، أو إلى القصص والحكايات المعروفة في الكتب المقدسة ، وفي كتب التراث للتعبير عن معان يريدونها ، وقد لجأت الشاعرة عائدة لاستخدام أسطورة الأم أو المرأة عند الكنعانيين التي ترمز للوطن لقد مجدت الحضارة الكنعانية في فلسطين المرأة، حتى أن عشتار وعناة كانتا نائبتين للإله إيل والإله بعل، وبقيت طقوس الحضارة الكنعانية قائمة في الحياة اليومية للناس ،، فلقد رأى الإنسان القديم أن الحمل والولادة سر تختص به المرأة ، وربط سر الخصوبة في الأرض في المجتمعات الزراعية بشكل خاص ؛ لذلك فقد عُبدت الأرض بوصفها أما ، ورمز لها في الدين القديم والأساطير بالإلهة الأم كما هو الحال عند الكنعانيين .
6. الوحدة العضوية والموضوعية والصدق الفني.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

التحليل الأدبي لقصة "صباح الدم" للقاصة مريم الضاني بقلم : عبد المجيد جابر

أولا – القصة :
أتأملك يا أبي من وراء فرجة باب حجرة نومي ، صبيحة ليلة عرسي . أتيتَ مبكرا كعادتك عندما تزور بناتك في مثل هذه المناسبة .
أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءً من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي . لم يعد هناك إنسان يهددك بعد أن تزوجت شقيقاتي كلهن غيري يا أبي ، أنا ابنتك التي لم يأتها نصيبها إلا عندما شارفت على الأربعين من العمر .
كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك قائلين :
بيّض الله وجهك يا عمي !.
عندئذ تنفرج أساريرك ، وتسترد أنفاسك ، وتحسو حسوات من الماء البارد لتطفئ الحرائق المستعرة في جوفك . لطالما تمنيتُ وأنا أصغي إلى أحاديثهن تلك أن لا أتزوج أبدا لكيلا أرى وجهك في ذلك الموقف العصيب ، ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهويشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف .
وعندما هممنا بمغادرة العيادة ألقيت بعبارتك في وجهه:
هراء ! . الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !.
حين سمعتُ عبارتك تلك هوى قلبي في جبّ لا قرار لها وهاجت في نفسي عواصف التوجس:
ماذا لو كنتُ مثلها يا أبي ؟ .
أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ .
أين المفر منك آنذاك ؟.
ألوذ بسريري ، أتأمل الضوء الشحيح المنبعث من وراء الستائر الداكنة ، و الهواء يعبث بباب حجرتي . تبدو وأنت جالس في زاوية الصالة كالسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في لحظاتهم الأخيرة ، حين يصغون إلى وقع أقدام جلاديهم وهي تدنو منهم.
كنت تختلس النظر إلى باب حجرتي ومن حين لآخر تنظر إلى الساعة مستبطئا مرور الوقت ، وتطلق زفرة كأنها نفس من أنفاس جهنم .
حدقتُ في عينيك المتقدتين وأبحرتُ في ذهنك الذي تتلاطم فيه أمواج الريبة والخوف ، وقرأتُ أفكارك :
لماذا تأخر زوجها في الخروج من الحجرة ؟ .
لا بد أن هناك خطبا ما ! .


لا .. لا ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ابنتي فتاة شريفة ، أثق بها . ابنتي الكبرى العاقلة ، أنا ربيتها فأحسنتُ تربيتها ، وأخواتها اللاتي تزوجن قبلها لسن أفضل منها خلقاً وتديناً ، ولكن من يدري ؟ لعل شيئا ما قد حدث لها عندما كانت طفلة ! .
ما أشد تلهفك على رؤية وجه زوجي يا أبتِ !.
أجزم أن ضغطك الآن قد حاذى حدوده القصوى . كل شيء فيك يحترق في أتون الانتظار ، يكاد الدم ينبجس من مسامك ، يتفصد العرق من جبينك غزيراً ، تتحد قطراته وتجري في أخاديد وجهك ثم تنزلق باتجاه ذقنك . غدا وجهك قطعة رمادية باهتة بلون شعرك وأنت ترشف رشفة من العصير ، أخالها تسيل في حلقك كحمم البراكين .
أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش فستاني الواسع ،.أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة التي لا تعرف مكانها يا أبي
مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .
تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ امرأة ، بيتنا الذي يعج بالتفاصيل الأنثوية ، صراخ أمي وهي تضع في المستشفى ، و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة التي تنطقها الممرضة في حرج :
بنت ! .
وضعتُ إصبعيّ في أذنيّ لكيلا أسمع صوتك ، ولكن قهقهتك دوت في حجرات البيت كطلقات مدافع العيد .هائجاً كنتَ ، تصيح تارة وتهذي تارة ، ثم تردد بصوت متحشرج :
الحمد لله .. الحمد لله . ألف مبروك ... ألف مبروك.
ناديتني فلم أقو على الرد ولا على الوقوف على قدميّ ، فاقتحمتَ حجرتي ماداً ذراعيك لتحتضنني .
كان وجهك مشرقاً مبتهجاً كشمس الصباح حين قبّلتَ رأسي ووضعتَ في يدي نقوداً ، مردداً بصوت خنقته العبرة :
بيّض الله وجهك يا ابنتي كما بيّضتِ وجهي !.

تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح.


من مجموعتي القصصية ( سرداب التاجوري )

ثانيا – تحليل القصة " 
العنوان : 
عندما تتم قراءتنا بتأن وبروية لهذه القصة القصيرة ،فإننا نقترب من الولوج إلى عالم هذه القصة ، وقراءتها قراءة تحليلية ، نقف عند عناصرها ومكوناتها ، ونحاول تلمس الرؤية الحياتية التي هدفت الكاتبة إلى إلقاء الضوء عليها ومعالجة آثارها ، والحيلولة دون الوقع في منغصات العذاب ودياجير الجهل والتخلف.
فالعنوان ( صباح الدم ) والصباحات كثيرة ، مثل صباح الخير التي تعني التحية بين طرفين وتحمل في طياتها المحبة ، وصباح الدم تعبير مجازي استعير للدلالة على البشر والتحية في اليوم التالي للزواج ، ويحمل في طياته عذرية العروس وطهرها وحُسن تربيتها في أعرافنا وعاداتنا وتقليدنا ، وصباح الدم ليس صباحا واحدا بل هو تعبير يستعمل صبيحة اليوم التالي للعروس التي يرافق زواجها نزول الدم ، فهو صباحات تتردد كما تتردد ألفاظ التحايا ، تتردد بعد كل حادثة زواج ثبت للزوج عذرية زوجته ، والفتاة السعيدة من لا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، فالتعبير يدل على فرح أهل الزوجة وتهلل أسارير وجوههم وحُسن سيرتهم ونقاء عروقهم ، فالمعنى الذي تلتقي فيه عبارتا ( صباح الخير ) و( صباح الدم ) هو الفرحة والسرور وابتهاج النفوس في الصباحات المتكررة ، غير أن صباح الدم قد ينعكس سلبا فتلك هي المصيبة الكبرى والطامة العظمى..

عرض القصة : 
الحدث : 
وفي هذه القصة كما في القصص القصيرة حدث واحد رئيس ،وقد لجأت القاصة إلى سرد الأحداث بلسان شخصية ، من شخصياتها وهي الفتاة الكبرى ، مستخدمة ضمير المتكلم ، وأخذت القاصة تلقي الضوء على هذه الشخصية ، فتحللها تحليلا ً نفسيا ً ، متقمصة شخصية البطل .
القصة عزيزي المتلقي لا تلخّص ، فهي بناء فني متكامل البناء ، لكننا نفعل ذلك مجبرين لغاية تحليلية ونظرة نقدية ، فالحدث الرئيس في هذه القصة يتمثل في كشف أغوار نفسية فتاة ارتسمت في أعماق نفسها عقدة الخوف من ليلة الزفاف وخشيتها ألّا يرافق زواجها نزول دم بكارتها لسبب لا تعرفه وما يرافق ذلك من هموم تقض مضاجع أسرتها وعلى رأسهم الأب ، والهم ليس هما بل هو هموم ، هموم الفتاة ، وهموم الأب ، وهموم الأسرة ، وهموم العائلة ، وهموم الزوج وأسرته وعائلته ، بل هو هموم المجتمعات الشرقية قاطبة.
فالأب يخاف من أن ابنته قد لا يثبت للزوج عذريتها وموقف عصيب في صبيحة اليوم التالي لزواج ابنته ، ينتظر حكم البراءة ، ولنستمع للقاصة تصف مشاعره : " أتيتَ خائر القوى ، جاف الحلق ، زائغ النظرات . يلوح على وجهك ذلك الانكسار الحاد العميق الذي غدا جزءا من ملامحك ، و تطوّق عنقك أغلال سوداء ثقيلة لا يراها أحد سواي "
كما تصف القاصة آثار عقدة الخوف المنغرسة في لا شعور العروس في وقت "صباح الدم كما في لا شعور والدها" أعني في صبيحة اليوم التالي لزواجها إذ تقول : " مازال قطار الزمن متوقفاً عند باب حجرتي ، وأنت منهمك في تجفيف عرقك المتصبب ، بينما يرتدي زوجي ثيابه بتؤدة ثم يخرج ملاءة السرير من سلة الملابس المتسخة . عندما خرج إليك سحبتُ اللحاف على جسدي المتعرق المرتعش و دفنت رأسي تحت الوسادة .استسلمت لرحى اللحظة الحاسمة التي تسحقني فأتطاير في الهواء كالغبار .تفتحت كل جراحي القديمة..."
فكم من فتاة بريئة قتلت ظلماً في مجتمعاتنا منذ القدم و إلى الآن ... جريمتها فقط أن لا دماء على المحرمة ... ولقد عبَّرت القاصة عن ذلك على لسان البنت الكبرى : " ونمَت تلك الأمنية في نفسي بعد أن تزوجَت ابنة عمي اليتيمة؛ وجهها الشاحب المذعور ووجه الطبيب الذي فحصها مسماران مغروسان في قلبي . كان الطبيب يحاول سدى أن يمتص غضبك العارم وهو يشرح لك حالتها :
إنها عذراء ، ولكنها من الحالات الشاذة التي لا تنزف "وهذا منبع قلق لكل فتاة قبيل زفافها ، فهي تخاف من الظلم ومن خطأ الطبيب ، إنه غول فاغر فاه يتربص بها ليلة زفافها .والأب يأتي ليطمئن على سلامة شرف ابنته ، وعندما يشير له العريس بالملاءة البيضاء التي اصطبغت بلون الدم يفرح ويسير بالشارع دونما عكازة ، وكأن شبابه عاد إليه من جديد ، وتتابع الأحداث بوعي القاصة في خلق عنصر التشويق . 

الصراع :
والصراع جلي في القصة، وهو لب كل فعل قصصي ، والصراع هنا بين بطل القصة مع نزعة من نزعات النفس ورغبة في تأكيد قيمة أخلاقية واجتماعية ، هو صراع داخلي داخل نفسية الفتاة ويتمثل هل تستطيع أن تبيض وجه أبيها في ليلة العرس أم تفشل؟ وصراع خارجي مع أسرتها والمجتمع ، تقف في وجهه عاجزة القوى يتمثل في ليلة الزفاف أيضا وتفترض أن غشاء بكارتها قد يكون مثل بكارة ابنة عمها ، حينها كيف يقتنع الأب والزوج والناس من براءتها وعذريتها؟
الشخوص : 
والشخوص في القصة : وكما هو الحال في القصة القصيرة أن هناك خاصية التركيز التي لا تحتمل أكثر من شخص واحد رئيس أو عدد محدود جدا من الشخوص ، والشخوص في قصتنا ، هم : الأب وبناته الأربع والزوج وابنة العم والطبيب والعريس، والشخصية الرئيسة البنت الكبرى في القصة وعلى لسانها تجري الأحداث ، وكلها تعمل متآزرة لصنع الأحداث وتحريك المواقف .
المكان : هما مكانان متداخلان ، وأحدهما إطار للآخر ، فالإطار هو العالم الشرقي والإسلامي خاصة كما يظهر في العنوان ، أو كقول الأب للطبيب : " الدم هو الدليل الوحيد على عفة الفتاة . الله لا يبتليني ... أنا أبو بنات . الله يستر عليها وعلينا !. "
وفي داخل هذا الإطار مكان آخر ، وهو بيت العروس ، هو العالم المصغر microcosm)) وفي هذا المكان يكمن مفتاح القصة . 

الزمان : 
والعنصر الزماني يرتبط ارتباطا عضويا بالعنصر المكاني وبالحدث ، فالحدث في النهاية هو اقتران فعل بزمان ، ويظهر الزمن بوضوح في صبيحة ليلة الزفاف وما يرافق هذه الليلة من حكم وأحكام ، وتستخدم القاصة الاسترجاع للعودة للزمن الماضي ، وهو ما يسمى بتقنية العودة بالأحداث إلى الوراء: ( كانت شقيقاتي يصفن حالتك في صباحيّاتهن ، وكيف كان أزواجهن يعطونك ملاءة السرير البيضاء الملوثة بالدم وهم يهنئونك...) 
اللغة : 
تتخذ اللغة في القصة القصيرة شكلا ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي، ففي القصة والراوية يسعى الكاتب إلى إدهاش القارئ بتميز سرده أو تماسك حبكته، أما هذا النوع من الأدب القصصي فهو مختلف في كل شيء، حتى في غايته، فالقصة القصيرة لا ترمي إلى عرض مقطع عرضي في لحظة من الزمن ووضعه تحت مجهر السرد كما هو الحال في القصة والرواية ، بل تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ بأسرع ما يمكن اعتمادا على تكنيكات لغوية خاصة.
تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاص لغة خاصة تمتاز بالكثافة العالية، فضلا عن تسارعها المحموم باتجاه النهاية.
وتعني الكثافة قي لغة القصة القصيرة شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني، والتعبير عن أكثر ما يمكن من (الأفعال) بأقل ما يمكن من المفردات. وهذا لا يتأتى إلا بلغة الشعر التي اكتسبت - مع توالي الخبرة الإنسانية عليها - القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
ولننظر مليا في بعض مما جاء في القصة ؛ لنحدد سمات تلك اللغة وتأثير ملامح شعريتها.
إن أهم أركان السرد أن يعمد القاص إلى رسم صور شخصياته وهي (تفعل)، لا أن يخبرنا هو عن (أفعالها)، ومن هنا تكون الأفعال عنصرا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة ، فكثير من الأفعال يعني كثيرا من المعاني وكثيرا من الأحداث.
لنقف عند هذه الجمل المتلاحقة ونرصد ما فيها : (تفتحت كل جراحي القديمة ، يتدفق منها الدم حاراً لزجا ًغزيراً ، أشم رائحته التي تبعث الخدر في أوصالي وتصيبني بالدوار . بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة. تصطخب في أغواري رؤىً متداخلة وتطل عليّ برؤوسها كالعناكب : يوم أن بلغتُ وأصبحتُ )
فهنا سنلحظ تزاحم الأفعال ، وسيادة الجمل الفعلية ، وخاصة الأفعال المضارعة التي تعني الحيوية والاستمرار في العذابات النفسية .
واللغة الموحية تكنيك آخر من تكنيكات القصة القصيرة يقرب لغتها من لغة الشعر، ففي النص السابق ذاته نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها الجمل السابقة ، ولنتأمل هذه الجمل : (بقع الدم تتناسل حولي وتلطخ الجدران والأثاث والسماء البادية من الفرجة الصغيرة للنافذة )، فهذه الحركة اختزلت الكثير من الكلام والكثير من الأفعال، وأغنت الكاتب عن العودة إلى أحداث ماضية، عندما أوحت هذه العبارة للقارئ، الشعور السلبي الذي يسري في أواصلها ومفاصلها.
ولننظر للغة الشعرية في بعض عبارات القصة : (و وجهك المُسوَد وأنت واقف عند باب حجرتها ، ممتطياً صهوة الأماني ،وسرعان ما تهوي على صخرة الكلمة ،التي تنطقها الممرضة في حرج (

فنحن هنا أمام لغة شعرية بالكامل بما تحوي من انزياحات وتشبيهات، فضلا عن الموضوع الشعري ذاته المتمثل في تشخيص موح، ومثل هذا النوع من القصص تأخذ فيه الانزياحات الأهمية الأولى قبل الأفعال، فهذه القصة – مثلا- قائمة على إسناد الفعل ( ممتطيا ) إلى ( صهوة الأماني ) وللأماني صهوة كما للحصان مثلا ، وللكلمة التي تنطقها الممرضة صخور .
كما استخدمت القاصة عبارات شائعة في المفهوم الشعبي ، تحمل في طياتها الفصاحة ، كما في مثل : ( بيّض الله وجهك يا عمي ).
وهي حينما تقول : ( أي أرض ستقلّني وأي سماء ستظلني ؟ ) فهي متأثرة بكلم وبلاغة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول عن أبي ذر : (ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر ) ، ويسمى هذا بالتناص ، وهو من نوع التناص الديني.
وتتسم لغة الكاتبة باللغة التصويرية للأحداث كقولها : (أغمضتُ عينيّ وهربتُ إلى الزقاق القديم ، أركض فيه طفلة صغيرة تطير ورائي جديلتي وكشاكش أدسّ جسدي النحيل بين أجساد الصبية وهم يلعبون ، ثم يهرب أحدنا فننطلق على أثره كأسراب الطيور. كانوا يختبئون فوق الأسطح الترابية وكنت أختبئ في صندقتي المهجورة)
فكأن المتلقي يتابع شريطا سنمائيا ويرى الأحداث تتتابع بانسياب وتلقائية دون أن يقرأها .

المغزى : 
إن القفلة في القصة ضرورية جدا وقد أتقنتها القاصة ، وهي لم تفعل ذلك جزافا، فللقفلة أهمية كبيرة ، فهي النقطة التي تضيء مغزى القصة ؛ لأن جميع الخيوط تتجمع فيها فالقاصة تقول في نهايتها : (تحاملتُ على نفسي ووقفتُ على النافذة أراقبك وأنت تتجه صوب سيارتك بخطىً رشيقة . لم تكن تتكئ على عكازك ، بل كنت تلوّح به في الهواء ، وأنت ترقص وتدور حول نفسك. كان ظهرك منتصباً على غير عادته ، ورأسك شامخاً كالجبال حين ركبتَ سيارتك وانطلقتَ بها تسابق الرياح. ) فالعروس متعبة من أثر العقدة النفسية التي تعاني منها ، فهي لا تقوى على الذهاب إلى النافذة ( تحاملت على نفسي ) والأب نفض عن نفسه غبار الشيخوخة وعاد إليه شبابه بعدما شعر بأنه لن يلطخ شرفه حقا أو باطلا ، وبعدما ساعد ابنته الحظ بألا يكون غشاء بكارتها مطاطيا ، وسلم من أي مرض مؤذ. ونجحت الكاتبة في وصف الأحداث وسردها بلغة تصويرية كما في المثال السابق
والفتاة الكبرى ترمز لكل فتاة شرقية مقبلة على الزواج ، والأب رمز لكل أب ينتظر أن تكون ابنته عذراء ليلة الزفاف ، وابنة العم ترمز إلى كل فتاة ظلمت وجار عليها المجتمع وتقاليده وجهله، وألصقت بها تهمة الزنا جورا وبهتانا ، ولقد نجحت القاصة في إيجاد المتعة العقلية والذهنية في نفس المتلقي ، والأدب الناجح هو الأدب الذي يولد تلك المتعة.


خصائص هذه القصة 
تختلف الخصائص عن العناصر في أن العناصر هي المكونات الرئيسية للعمل أما الخصائص فهي المحدد الأساسي للعمل، بمعنى أدق إن افتقاد العمل لأحد عناصره لا يؤثر في تحديد هوية العمل، هل هو قصة قصيرة أم لا، ولكن إذا افتقدت القصة القصيرة لأحد خصائصها كانت شيئا أخر غير القصة القصيرة.
وهذه الخصائص بالترتيب هي:
1.الوحدة:
و تعني أن كل شيء فيها يكون واحدا، بمعنى أنها تشتمل على فكرة واحدة، وتتضمن حدثا واحدا، وشخصية رئيسية واحدة، ولها هدف واحد...الخ.
ولقد وجهت القاصة مريم الضاني كل جهدها الإبداعي صوب هدف واحد لا تحيد عنه ، وقد اتسمت هذه القصص ب( الوحدة ) ، والمقصود ب( الوحدة )الوحدة في الحدث والموقف ، فالوحدة تتمثل هنا في إظهار أحاسيس فتاة صبيحة ليلة الزفاف. 

2.التكثيف والتركيز :
ويقصد به التوجه مباشرة نحو الهدف من القصة مع أول كلمة فيها، فهي كما يقول يوسف إدريس" القصة القصيرة رصاصة، تصيب الهدف أسرع من أي رواية". : وقد تمثل التكثيف في القصة في الاقتصاد في الشخوص والزمان واللغة . ولقد أحسنت الكاتبة صنعا عندما اهتمت بالتركيز في قصتها .
3.الدراما:
ويقصد بها خلق الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل، حتى ولو لم يكن هناك صراع خارجي، ولم تكن هناك غير شخصية واحدة. ، ولقد وفقت القاصة خلق الحركة الديناميكية في قصتها ، فكنا مشدودين معها من أول كلمة إلى أخر القصة ، فكانت قدرة على صنع الحبكة بنجاح وتوفير عنصر التشويق.
فالدراما هي عامل التشويق الذي يستخدمه الكاتب للفت انتباه القارئ، وهي التي تحقق المتعة الفنية للقارئ وتشعر القاص بالرضا عن عمله. 

ولقد اعتنت القاصة بتشكيل أساس من أساسيات القصة القصيرة المتمثل ب ( وحدة الانطباع )أو ما يسمى ( وحدة التأثير )وهذا معناه أن جميع عناصر القصة وأجزائها تعمل متآزرة بقصد إحداث الأثر الوجداني الذهني على المتلقي ، ولقد نجحت القاصة بإحداث هذا التأثير .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

التحليل الأدبي لخاطرة ( اغتيال حلم ) للأديبة ليلى يوسف . بقلم عبد المجيد جابر

اِغتيال حلم
ليلى يوسف*
http://3.bp.blogspot.com/_Z53-2kHIU5...F+THE+SACK.jpg




أولا - خاطرة اغتيال حلم للكاتبة الأديبة ليلى يوسف :




"حتَّى أنتَ، برُوتُوس!"؛ عِبَارَةٌ نَطَقَ بِهَا يُوليُوس قَيْصَر فِي رَائِعَةِ شِكسبِير الخَالِدَةِ، وَصَارَتْ مَثلًا يُضْرَبُ لِغَدْرِ الْأَصْدِقَاء. الآَنَ، وَبَعْدَ سَنواتٍ طَويلَةٍ مُنْذ كِتَابَة تِلْكَ الرَّائِعَةِ، لَا تَزَالُ العِبَارَةُ الشَّهِيرَةُ تَترَدَّدُ. نَحْن نُرَدِّدُهَا، لَيْسَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي اليَوْمِ، إنَّمَا مَرَّاتٍ، وَمَرَّاتٍ!




لَا تَقُلْ لِي إِنَّ طَعَنَاتِ الْغَدْرِ لَمْ تَعْرِفْ طَريقَهَا إِلَيْكَ؛ هِيَ مُسَلَّطَةٌ عَلَيْنَا جَمِيعًا. أَنَا أَشْعُرُ بِهَا الآَنَ، وَجِرَاحِي لَا تَزَالُ تَنزِفُ، وَرُوحِي تَئِنُّ مِنْ وَقْعِ أَلَمِهَا:




"بِالْأَمْسِ، كَانَ لِي حُلمٌ جَمِيلٌ.
كُنْتُ أَحْلَمُ، وَأَحلَمُ، وَأطِيرُ بَعِيدًا.
تَسَابَقتُ مَعَ الطُّيُورِ، وَزَاحَمْتُ السُّحُب.
سَكنْتُ الْقَمَرَ، وَتَلَحَّفْتُ بِجَدَائِلِ الشَّمْس.
صَادَقْتُ النُّجُوم؛ فَهمَسَتْ لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي.
كُنْتُ رَاضِيَةً هَنِيَّةً.
كُنْتُ أَحْلَمُ، وَأحْلَمُ.
فَجْأَةً، نَهَرَتْنِي يَدُ الْغَدْرِ وَالْقَسْوَةِ بِعُنْفٍ، وَأيْقَظَتْنِي مَذْعُورَةً، فَهَوَيْتُ إلَى قَاعِ الْأَرْضِ.
فَجْأَةً، مَاتَ حُلْمِي؛ الْغَدْرُ وَالْقَسْوَةُ تَآمَرَا عَلَيْهِ مُؤَامَرَةً رَهِيبَةً.




اِسْتَيْقَظْتُ وَشَاهَدْتُ بِعَيْنَي مَوْتَ حُلْمِي!
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهْدِ، وَالْجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ."




حَذَار هَذَا الْـ (برُوتُوس)! هُو هُنَا، وَهُنَاكَ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ. هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا، وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا.1
***
-----------------------------------
1. كَانت هَذه السُّطُور مِن أَوائِل مَا نَقشتُه علَى ضَوْء قَلبِي فِي مُنتَصَفِ الثَّمانِينَات؛ وَسبَقَ نَشرُها فِي عِدَّةِ مَطبُوعاتٍ دَوْليَّة بِاللُغَتَيْن العَربِيَّة وَالإنجِلِيزِيَّة. لَا أَدرِي لمَ اِمتَدَّت يَدِي تُنقِّبُ عَنهَا بَعدَ كُلِّ هَذه السَّنوَات!
لَا أَظنُّ أنَّ شِكسبِير اِستَخدَم كَلمَة (برُوتُوس) عَفويًّا؛ فَهيَ مُشتَقَّة مِن كَلمَة (Brutality) الإنْجلِيزِيَّة، وَالَّتي يَتضَمَّن مَعنَاها القَسوَة وَالوَحشِيَّة، كُلّ مِنهُمَا لَا يَقلُّ بَشاعَةً عَنِ الغَدرِ.


التحليل الأدبي: بقلم ماجد جابر

جو النص
طعنت الكاتبة بخناجر غدر من أقرب المقربين لها، فانتابتها موجات انفعال عاطفي وأخذت أساليب الشعر تغتلي في ذهنها وتتضارب العواطف في قلبها. الأساليب الشعرية تدفقت في غير تعمد وتكلف كالسيل؛ فأنتجت عملا أدبيا يهز المشاعر والأحاسيس، ولا نملك من أنفسنا شيئا إلا أن نتفاعل معه وتشرئب نفوسنا إليه.
الأفكار الرئيسة :
1. تروي لنا الكاتبة أنها كانت تحلم بالسعادة قبل أن تفاجئها سهام الغدر، وأنها كانت في حياتها راضية مرضية.
2. الكل يتعرض لحالات الغدر في حياته.
3. تعرضت الكاتبة لطعنات غدر قوية ودامية أدت إلى المفارقة.
4. تفاجأ كاتبتنا بسهام الغدر من حيث لا تحتسب، وهنا القسوة والضراوة ومكمن الألم والحزن والتأوه.
5. تذكر الكاتبة هول المفارقة بين ماض حالم زاهر ينقضي سريعا لتحل محله سهام غادرة انصبت على مشاعرها على حين غرة.
6. تصف الكاتبة آثار الغدر الدامية على نفسها وقلبها ومشاعرها، وتنعي أحلامها الوردية. فالنص يتسم بالوحدة الموضوعية.


العاطفة
ا. زهو الكاتبة بأحلامها الوردية وأمانيها الجميلة قبل هول المفاجأة الغادرة التي لم تحسب لها حسابا ، فقد كانت في الأعالي منشرحة الصدر.
2. كرها للحالة الدراماتيكية التي ألمت بها فجأة.
3. عاطفة الألم التي اجتاحتها بسب سهام الغدر.
4. إشفاق الكاتبة على مشاعرها النازفة.
5. عاطفة اليأس من كل قريب أو حبيب أو صديق.
وكلّ هذه عواطف إنسانية صادقة صادرة من الأعماق.

الخصائص الأسلوبية
العنوان :
أ. يقال قتله غيلة: أي وهو أن يخدع إنسان آخر فيذهب به ويقتله. ومعنى :" الحلم " المعجمي : ما يراه النائم في نومه، وقد تطور معناها الدلالي ليفيد ما يتمناه المرء ويسعد به في حياته .
فالعنوان، (اغتيال حلم)، موح ومعبر، ويتمثل في أن الكاتبة كانت لها آمال عراض ملأت حياتها بالسعادة والأمان والاطمئنان ، وكانت تركن لصديق يساعدها في تحقيق آمالها هذه؛ غير أن هذا الصديق لم تكن بسماته صادقة، بل صفراء، فاستغل براءة الكاتبة وخدعها بعد أن طمأنها ووعدها بالآمال الكبيرة. ركنت إلى ذلك، فجاءتها سهام الغدر من حيث لا تحتسب لتحصل المفارقة الرهيبة.
لقد وفقت الكاتبة في اختيارها لهذا العنوان الدال والمعبِّر.

ب. استخدمت الكاتبة كثيرا من الألفاظ في معانيها الحقيقية لتوضيح أفكارها ونقل المعاني لمستمعيها؛ وهي ألفاظ سهلة جميلة تناسب الغرض الأدبي.

ج. استخدمت الكاتبة اللغة الواقعية الحية التي لا تحتاج إلى معاجم أو قواميس دون أن ينقصها الإيحاء؛ وهي مشحونة بالعواطف الجياشة، ملائمة للموقف ومتناسقة مع الإحساس. ففي بداية النص كانت الشاعرة سعيدة قبل الغدر، فاختارت الألفاظ المناسبة لذلك، مثل:

حلم ، جميل، أحلم، أطير، الطيور، النجوم ، القمر، الشمس، تسابقت، زاحمت ، راضية ، هانئة... إلخ.
وعندما عبّرت عن ألمها من الغدر اختارت الألفاظ الملائمة لحالتها النفسية، مثل: مذعورة ، هويت، قاع الأرض، مات، الغدر، القسوة، تآمر، رهيبة، الجرح، ينزف ، بروتوس، يتربص، يغتال.

د. تحدثت الكاتبة عن الآخر، وهو من تسبب في إلحاق الأذى النفسي والألم بها، فرمزت له بـ ( بروتوس )؛ وهي خصيصة من خصائص النص الأدبي الناجح.

ه. اتكأت الكاتبة على الفعل الماضي الذي يصلح للسرد القصصي، كقولها: كان، كُنتُ، تَسَابقتُ، وزاحمت، صَادَقتُ، فَهمَسَت، وَهَمَسْتُ، نَهرَتنِي، وَأيقَظَتنِي، سَكنتُ، وتَلحَّفتُ، فَهَوَيتُ.
ونلاحظ أن الفعل قد اقترن بضمير الفاعل، وهو (التاء)، لتجسيد عمق المأساة التي انهالت عليها هي دون غيرها؛ ولتكون الفردية المطلقة. كما استخدمت الشاعرة أسلوب المتكلم لتأكيد الذات.

وقد استخدمت الكاتبة مفردات الفعل المضارع لما فيها من استمرارية، استمرارية المأساة ونزف الجراح، التي لم تكن في الماضي، كقولها:
لَا تَزَالُ تَنْزِفُ، يَترَبَّصُ، يَغْتَالُ.

و. أفادت الكاتبة من مدرسة الرومانسيين، فنهلت من معجمهم الشعري وتغنت ببعض عناصر الطبيعة، كما في: الطيور، النجوم، القمر، الشمس، الأرض...إلخ.
كذلك، أفادت من الرمزية، فاستخدمت (بروتوس) رمزا للصاحب الغادر. والرمز يكون أكثر إيحاء في دلالاته على المعاني، وأكثر تصويرا للأحاسيس. وأجرت تبادلا بين معطيات الحواس كما هو الحال عند الرمزيين، كقولها: وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي!.

2. الأساليب الخبرية والإنشائية
ا. استخدمت الكاتبة أساليب متنوعة تناسب الغرض، فتنقلت من الأسلوب الخبري الدال على التشاؤم والحزن والأسى ووقع الجراح. أما أسلوب الإنشاء – وهو قليل – فقد جاء ليفيد النصح والإرشاد من غدر الغادرين والمتآمرين.

ب. استخدمت الكاتبة المزج بين التجربة الذاتية والتجارب الجمعية للناس جميعا وللإنسانية كلها؛ لتحذر من الغادرين وسهامهم. ومن خلال هذا المزج، أقامت الكاتبة التوازن الداخلي بين الفكرة والعاطفة، مما يولد التحام مكونات العمل الأدبي ليغدو عملا فنيا رائعا:
اِسْتَيقَظتُ وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي!
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهدِ، وَالجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ...(تجربة ذاتية)
هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا، وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا (تجربة جمعية)

ج. الإطناب، كقولها: (كُنتُ أَحلَمُ، وَأَحلمُ). ففي هذا السطر الشعري النثري، إطناب لتأكيد الحلم الجميل في نفس المتلقي قبل الغدر. وقولها: (هُو هُنَا، وَهُنَاكَ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ. هُو هُنَا، يَترَبَّصُ بِنَا ...) إطناب بالتكرار في معرض الإنذار وتحذير المتلقي من هول فعل الغدر والتنبيه من الغادرين والاحتراس من شنيع أفعالهم.
وقد جاء الإطناب لتمكين المعنى في النفس، ولإظهار قيمة السعادة التي تغشت نفس الكاتبة والنشوة التي كانت تسري في مفاصلها قبل أن تبتلى بالخداع والغدر:
كُنتُ أَحلَمُ، وَأَحلمُ، وَأطِيرُ بَعيدًا.
وَشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي.

د. الإيجاز بالحذف والتقدير:
"نَهرَتنِي يَدُ الغَدرِ وَالقَسوَةِ بِعُنفٍ، وَأيقَظَتنِي (بعدما) سَكِنتُ القَمر".


3. التناص
وظّفت الكاتبة في نصها الأدبي النصوص التراثية الإنسانية التي تغني تجربتها الشعورية وتوفر لها طاقات إيحائية واسعة، فاستخدمت (بروتوس) رمزا لغدر الصديق والصاحب لصاحبه، وهو تناص أدبي استخدمه شكسبير في مسرحيته المشهورة، وتناص تاريخي، حيث غدر بروتوس بأقرب المقربين إليه ومن أفضل من رعاه وأحسن إليه. واستخدمت الشاعرة هذا الرمز لتعبِّر عن رفضها للغدر والغادرين وتحذر منهم: حَذَار هَذَا الْـ (برُوتُوس)!

4.المحسِّنات البديعيَّة
أ. المقابلة، كما في: ؛ فَهمَسَت لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي. وفيها توحد بين المبدع والطبيعة المتبع في المذهب الرومانسي.
ب. الطباق: فطابقت بين كل من هنا وهناك، وبين الشمس والأرض.

ومن أبرز خصائص النص، الوحدة العضوية، والوحدة الموضوعية، والصدق الفني.

ثانيا - التصوير الفني
1. الاستعارات

أ. ومن الاستعارات المكنية ما يلي:
نَهرَتنِي يَدُ الغَدر: شبهت الغدر بإنسان له يد.
وَأطِيرُ بَعيدا : شبهت الكاتبة نفسها بالطائر.
صَادَقتُ النُّجُوم؛ فَهمَسَت لِي ...: شبهت الشاعرة النجوم بإنسان يصادق ويهمس.
وفيها توحد بين الشاعرة والطبيعة.
... بِجدَائلِ الشَّمس: شبهت الشمس بامرأة لها جدائل.
الغدر وَالقَسْوَةُ تَآمَرَا عَليْهِ: شبهت كلا من الغدر والقسوة بإنسان يتآمر.
(حلمي مات) و (َشَاهَدْتُ بِعَينَي مَوْتَ حُلمِي) : شبهت الكاتبة الحلم في كلٍّ بكائن حي يموت.
يَترَبَّصُ بِنَا: شبهت الغادر بوحش وعدو يستفز.

ب. الاستعارة التصريحية:
وتَلحَّفتُ بِجدَائلِ الشَّمس : شبهت نورانية الشمس لها باللحاف؛ وفيها كناية عن سعادتها.
وَيَغْتَالُ أَحْلَامَنَا: شبهت الكاتبة فقد الأحلام بالإغتيال والقتل بخدعة.

2. الكنايات
(كَانَ لِي حُلمٌ جَميلٌ): كناية عن الآمال الجميلة.
(وَأطِيرُ بَعيدا )، و(َتسَابقتُ معَ الطُّيُور)، و(زَاحَمتُ السُّحب)، و(صَادَقتُ النُّجُوم)، و(فَهمَسَت لِي بِسِرِّهَا، وَهَمَسْتُ لَهَا بِسِرِّي).
كناية في كلٍّ عن الفرحة الغامرة التي تسري في نفس الكاتبة.
(إغتيَالُ حُلم) و(مَاتَ حُلمِي):كناية عن ضياع الأمل في كلٍّ.
فَهَوَيتُ إلَى قَاعِ الأَرْضِ: كناية عن فداحة ما حلَّ بها من شدة وقع الغدر.
الجِرَاحُ لَا تَزَالُ تَنْزِفُ: كناية عن استمرار الأذى النفسي الذي أحدثته سهام الغدر.
حُلْمِي مَاتَ فِي المَهدِ: كناية عن الأمل الذي لم يدم طويلا في نفس الكاتبة.

3. المجاز المرسل
يد الغدر: ذكرت الكاتبة السبب، (اليد)، والمسبب، مجاز مرسل له علاقته السببية.

ثالثا - شخصية الكاتبة
اتّسمت المعاني والأفكار والصور الفنية التي اتكأت عليها الكاتبة بالبساطة والرقة والعذوبة، إذ تبدو الكاتبة من خلالها جيّاشة رقيقة العاطفة، مرهفة الإحساس، قلقة ومتألمة من فعلة الصاحب وشنيع صنعه؛ تفاجأت بخسته ودناءته. فهي تأبى الغدر، وتفي بالصحبة والصداقة، وتؤمن بالمثل والقيم العليا.

رابعا – الوزن والموسيقى
نظَّمت الكاتبة النص على نمط النثر الشعري؛ فقد تخلصت من الرتابة في القافية الموحدة، وجاءت بالمقطوعات حسب التدفق العاطفي للكاتبة ، مما ساهم في المحافظة على الوحدة العضوية والموضوعية في النص. هذا التدفق تمثل في غدر الصاحب الغادر والصديق المخادع وسلبه للأماني والآمال، والتحذير منه.
***
----------------------------------------------------
*. ليلى يوسف كاتبة وصحفية ولغوية مصرية مقيمة في إنجلترا. صدر لها كتاب "خربشة الطفل" باللغة الإنجليزية، وتعد دراسات مستفيضة باللغة الإنجليزية عن الحقيقة المطلقة استغرقت قرابة ربع قرن من الزمن.